وإنْ كان أدعى إلى العجب منه إلى الألم أن ترى فئةً من سوريّي الداخل اليوم، وقد ضاق بهم الحال من غلاء الأسعار وسوء الأوضاع، مع هذا سكتت ألسنتهم فما عاد النطق يعرف لها سبيلاً، تتبادر إلى ذهنك أسئلة عدّة من قبيل: كيف لهم أن يحتملوا طاغيةً لا يملك من السلطان إلّا ما أعطوه، ولا من القدرة على الأذى إلّا بقدر ما أمكنهم احتماله منه؟ ويحيّرك أنّه لا تضيرهم، على سبيل المثال، تصريحات المستشارة في الرئاسة السورية، لونا الشبل، الاستفزازية، والتي أطلقتها عبر لقائها مع قناة “روسيا اليوم” لتؤكد أنّ “الشعب السوري لن يموت جوعاً ولا برداً، وأنّ الحكومة استطاعت كسر الحصار المفروض على سورية، وتأمين المتطلبات الأساسية للمواطن” .. يدهشك كذلك أنّه لا يُحرجهم أبداً أنّ “سيّدهم” الذي تحوّل إلى نجمٍ سينمائي لا يجيد شيئاً سوى التعامل مع الكاميرات بابتسامته الهوليوودية الفاقعة، حوّلهم إلى أنصار بؤساء ومسحوقين، عبر تعميق تفاهة تضحياتهم، وغربتهم حتى في “حضن الوطن”.
إنّه لأمر مؤكّدٌ أنّ هذه الشريحة من السوريين، المعروفة عموماً باسم “الموالين المتطرّفين”، والتي رفعت منذ البداية شعارات مثل “الأسد أو لا أحد” و”الأسد أو نحرق البلد”، تعلم جيداً أن “لا أحد” يسيطر اليوم على سورية، وأن البلد “حُرق” فعلاً بنار الصراع الطائفي، وبات مستقبلهم في حكم المجهول. وعلى مفترق طرق يقفون. قلة قليلة منهم تتقبل فكرة الاندماج وسط أطياف المجتمع السوري، والتخلّي عن سلطةٍ أضحت كلفتها أكبر من قدرتهم على تحملها. على المقلب الآخر، كثيرون منهم يرفضون هذه الفكرة، على الرغم من الاستياء من قيادة بشار الأسد بعد ازدياد المعاناة الاقتصادية وانهيار الأوضاع الأمنية. يرون أنّهم مرغمون على تأييد النظام باعتباره ضرورة وجودية. ذاتهم الذين لا يزالون مسكونين، ومنذ قرون، بفكرة أنّ الأغلبية السنّيّة لم تزل محمّلة، وبكلّ تأكيد، بأحقاد الانتقام. وفي الحقيقة، هم أنفسهم الذين شكّلوا وجه الأسد عبر عقود، خلال المهرجانات الانتخابية ومسيرات التأييد، ووقّعوا بيعتهم بالدم، وعرضوا صوره الشخصية على نوافذ محالهم، وزجاج سياراتهم، وجدران منازلهم، وحتى في أجهزتهم الخلوية. عروض المطاوعة هذه لا تعبّر عن شرعيةٍ اكتسبها النظام عن جدارة، بل باتت جزءاً من تقاليده العفنة، تعمل على تأليه عائلة الطغيان التي كلّما زاد إجرامها وعلوُّها في الأرض، ولو كان ذلك على ركام المدن وخيم اللجوء، زاد اطمئنان تلك الفئة من الموالين إلى أمانهم، أو لنقل “عبوديتهم المحصنة”.
حالة التملك والهوس المسيطرة على فئة “الموالين المتطرّفين” للأسد، وما يترتب عليها من تقديسٍ وخضوع، ليست إلّا عبودية استقرّت في اللاشعور
ولأنّها تعفيهم من التفكير المنطقي، وتخلصهم من تبعات الحرية القاسية، أدّوا هذه العروض لتسويق أسطورة قوة “سيدهم” المزعومة، وهم من جعلوه كذلك. هذه “المطاوعة النفعية” محورية لإيجاد نوع من السيطرة المرئية للسلطة، يتطلب دوامها تثبيت الرواية الخيالية لقداسة الأسد، ويمكن أن نطلق عليها القوة الانضباطية الرمزية. وتشير هذه القوة إلى الطرق التي تتمّ من خلالها إعادة إنتاج النظام السوري، وذلك بتعويد الناس على ممارسةِ إيماءاتها، وترديدِ شعاراتها المشكّلة لطاعتهم، حين يبدي الناس حذراً بشأن كيفية الكلام عن الرئيس في أكثر الجلسات غير الرسمية، وفي الأماكن العامة، وحتّى بينهم وبين أنفسهم. ثمّة فرضيةٌ أنّ حالة التملك والهوس المسيطرة على فئة “الموالين المتطرّفين” للأسد، وما يترتب عليها من تقديسٍ وخضوع، ليست إلّا عبودية استقرّت في اللاشعور، لم تنقطع منذ قرون، مصدرها الخوف من الانتقام والإقصاء السياسي والاستنكار الاجتماعي.
إنّهم ببساطة يعبدون ما يصنعون، ويهبون الطاغية “كامل الدسم” كلّ أحلامهم وعواطفهم وماهيتهم، بعدما أفلسوا تماماً من أيّ معنى أو قيمة داخلية. بطبيعة الحال، تزداد لذّة العبودية لديهم، كلما تمادى الحاكم في الأحادية والفردانية المطلقة، وأطاح حكم الدستور والقانون، وانتحل من صفات الله حيث يتخلق بالقوة والجبروت والعظمة. وعليه، لن يهزّهم، بالتأكيد، خبر تلك الشابة الجامعية التي لم تمت داخل المعتقلات أو المخيمات أو على الحدود البيلاروسية، بل ماتت داخل بيتها في إحدى مناطق سيطرة النظام السوري، بسبب سكتةٍ قلبيةٍ سببها “البرد الشديد!” ولا بذخ الاحتفالات الكرنفالية التي يقيمها آل الأسد ومن لفّ لفيفهم من أمراء الحرب، بينما هم يموتون جوعاً وبرداً وعلى بعد أمتار قليلة منهم! ولن يأخذ بانتباههم خطورة تسيير قوات روسية إلى جانب عدد من السيارات المصفحة والمدرّعات في مناطق متفرّقة من ميناء اللاذقية، أو حتى قانون الجرائم الإلكترونية الذي يعتبر موتهم من “البرد والجوع” تهمةً فاجرة توهن نفسية الأمة. كذلك سيمرّرون، وببساطة مستفزّة، فضيحة تسرّب “الفيول” حتّى جزيرة قبرص، بينما البلاد تغرق في فراغٍ مرعبٍ من الوحشة والظلام، ولن تحرجهم على الإطلاق فكرة أنّ الضريبة المفروضة على أصحاب الكلاب أكبر بكثير من المبلغ الذي يدفعه النظام للموظف الموالي الذي يُرزق بطفل… إلخ.
يبدو أنّ حال “الموالين المتطرّفين” لم يتغير حتى اللحظة، فهم ما زالوا لا يجادلون في وحشية النظام الذي ورّطهم في الجرائم التي اقتضاها بقاؤه
وبعد كلفةٍ بشريةٍ ثقيلةٍ تسببت بها الحرب السورية، وكلفة اقتصادية قدّرها تقريرٌ مشترك لمنظمة “الرؤية العالمية – وورلد فيجن” وشركة “فرونتير إيكونوميكس” لتطوير النتائج الاقتصادية، بنحو 1.2 تريليون دولار، يبدو أنّ حال “الموالين المتطرّفين” لم يتغير حتى اللحظة، فهم ما زالوا لا يجادلون في وحشية النظام الذي ورّطهم في الجرائم التي اقتضاها بقاؤه، والذي لم ينطلق من قناعةٍ طائفيةٍ أو ولاء عقائدي. الواقع أنّه، ترغيباً وترهيباً، قد زجّهم في أفعاله، مؤسّساً لوصفٍ يجعل من الانتفاضة على الظلم والظالم حرباً “سنية علوية”. وعليه دعونا نتذكّر.
في الخامس من ديسمبر/ كانون الأول عام 1936، أعيد دمج الدولة العلوية مع سورية، وكان عددٌ من وجهاء العلويين، من ضمنهم كبير عائلة الأسد آنذاك، قدّموا طلباً إلى رئيس الوزراء الفرنسي يلتمسون إعادة النظر في نيّة الانتداب منح سورية الاستقلال، ودمج الدولة العلوية فيها مرّة أخرى، مؤكّدين أنّ “الشعب العلوي يرفض أن يلحق بسورية المسلمة” وهي الوثيقة التي استشهد بها وزير الخارجية الفرنسي، لوران فابيوس، في اجتماع الأمم المتحدة عام 2012، عندما واجه مندوب النظام السوري قائلاً: “جدّ رئيسكم الأسد طالب فرنسا بعدم الرحيل عن سورية وعدم منحها الاستقلال”… “حرب سنّية علوية” هو وصف قاصر ومجحِف، فالمصالحة الوطنية، بما فيها الإفصاح عن كلّ المخاوف والمظالم، مسألة جوهرية لزمنٍ لاحقٍ تلغى فيه ظاهرة “تقديس الحاكم”، فيما اللحظة الآنية هي دعوة “إصلاح إسعافي” للهوية الجماعية في سياقٍ وطني، في انتظار أن يأتي زمنٌ ولسان حال كلّ سوري يقول فيه: “لسنا معارضة ولسنا موالاة، نحن مختلفون حيث يقف الظلم، متشابهون على الضفة المقابلة حيث الإنسان أخو الإنسان”. وبالتساوق مع ما سبق، فإنّ الرؤى المختلفة بشأن مفهوم المواطنة قابلة تلقائياً للاتحاد في إطارٍ يضع الإنسان السوري، بخصوصيته الفردية، كالقيمة الأولى في البحثين، السياسي والمجتمعي، عن المعنى، أما كنه المعنى الديني على أساس المناهج المتنوعة، فموضوع في وسع السوريين أن يتفقوا على أن يبقوا فيه، كما كانوا على مدى العصور، على خلافٍ لا يفسد الوئام. بموازاة ذلك، ستفيدنا الإشارة إلى أنّ علي عزت بيغوفتش، دخل إلى المسجد، وهو رئيس البلاد (البوسنة والهرسك)، فأفسحوا له المجال ليتقدّم الصفوف، فالتفت إليهم، وقال: “هكذا تصنعون طواغيتكم”.
عبير نصر _ العربي الجديد