في 12 تشرين الأول/أكتوبر، أصدرت إدارة بايدن وثيقة استراتيجية الأمن القومي الخاصة بها، والتي يتوجب على كل إدارة أمريكية إصدارها بهدف تحديد أبرز التحديات العالمية، وأولويات الإدارة ذات الصلة، والاستراتيجية المتبعة بحسب كل منطقة جغرافية. لم يغب الملف السوري عن قائمة التحديات في هذه الاستراتيجية، والتي كانت وما زالت تتفاعل معه الولايات المتحدة على كافة المستويات لا سيما العسكرية والأمنية منها، إلا أن الملاحظ وجود اختلاف في سياقات هذا التفاعل بالمقارنة مع استراتيجية الأمن القومي لإدارة ترامب والتي صدرت في كانون الأول/ديسمبر من عام 2017.
وعليه؛ يسعى هذا المقال لتحليل سياقات تفاعل إدارة بايدن وإدارة ترامب مع الملف السوري، كل على حدة، وذلك وفق الأولويات الاستراتيجية لكل إدارة على مستوى التحديات العالمية من جهة ووفق محددات واقع الصراع في الجغرافيا السورية من جهة أخرى.
في الوقت الذي تناولت فيه استراتيجية إدارة ترامب الملف السوري في سبعة مواضع من الوثيقة، تناولات استراتيجية إدارة بايدن الملف في ثلاث مواضع فقط، وهو ما يعطي دلالة لانخفاض درجة أهمية الملف السوري للولايات المتحدة بعد مرور ما يقارب الثلاث سنوات على تجميد خارطة النفوذ في الجغرافية السورية، وظهور تحديات عالمية جديدة أبرزها الغزو الروسي لأوكرانيا. وبالنسبة لاستراتيجية إدارة ترامب، فقد هيمن ملف الإرهاب المرتبط بتنظيم الدولة وتنظيم القاعدة على تعاطي هذه الاستراتيجية مع الملف السوري، إلى جانب تناولها لملف أسلحة الدمار الشامل لا سيما الأسلحة الكيميائية، وملف تسوية الصراع وعودة اللاجئين. أما استراتيجية إدارة بايدن، فقد تعاطت مع الملف السوري وفق ثلاث محددات: ملف الإرهاب، الهجرة الجماعية، وتموضع سورية في السياسة الخارجية التوسعية لروسيا.
ضمن ملف الإرهاب، حددت استراتيجية إدارة ترامب خطر الجماعات الإرهابية كخطر مستمر رغم الحاق الهزيمة بكل من تنظيم الدولة وتنظيم القاعدة على مستوى السيطرة الجغرافية في العراق وسورية، لتضع الاستراتيجية على رأس أولوياتها مواصلة الحرب ضد “المجموعات الإرهابية الجهادية كتنظيم الدولة وتنظيم القاعدة”، والمرتبطة بـ “إيديولوجيا إسلاموية راديكالية مشتركة تحرض على العنف ضد الولايات المتحدة والشركاء”، مصنفةً سورية والعراق في خانة واحدة.
أما استراتيجية إدارة بايدن، فقد اعتبرت بأن الجماعات الإرهابية بشكل عام أصبحت أكثر “تنوعاً إيديولوجياً”، وهو ما قد يُعتبر إشارة غير مباشرة لمسار التحول في “هيئة تحرير الشام”. بالمقابل، فقد صنَّفت هذه الاستراتيجية كل من سورية والصومال واليمن في خانة واحدة كبلدان تشكل “معاقل إرهابيين”، هادفةً لمنع تصدير الإرهاب منها وذلك عن طريق العمل مع الحكومات الإقليمية من جهة، وتقديم الدعم الأمني والمساعدة الاقتصادية للشركاء المحليين من جهة أخرى؛ الأمر الذي يشير لاستمرار الدعم الأمريكي لقوات قسد خلال الفترة القادمة.
ضمن ملف التسوية السياسية واللاجئين، وبحسب استراتيجية إدارة بايدن، لا يقتصر التعاون مع الحكومات الإقليمية وتقديم الدعم للشركاء المحليين على منع تصدير الإرهاب فقط؛ وإنَّما يمتد ليشمل الحد من حالة عدم الاستقرار ومنع تصدير الهجرات الجماعية من سورية وبلدان أخرى، من دون التطرق لملف التسوية السياسية أو عودة اللاجئين والذي يشكل أولوية لدول جوار سورية. وبالتالي، تُظهر استراتيجية إدارة بايدن تبايناً مع استراتيجية إدارة ترامب التي كانت أعلنت عن نيتها لإنشاء “تسوية للحرب الأهلية السورية تؤمن الظروف للاجئين للعودة”، والتي لم تقم بإنجاز خطوات عملية في هذا الصدد.
وفي هذا السياق، تَعتبر إدارة بايدن في استراتيجيتها التدخل العسكري الروسي في سورية كجزء من “سياسة خارجية إمبريالية” تتبِّعها الحكومة الروسية بهدف “قلب عناصر أساسية في النظام الدولي”، والتي بدأت بغزو شبه جزيرة القرم عام 2014، مروراً بالتدخل العسكري الروسي في سورية عام 2015، وصولاً للغزو الروسي الأخير لأوكرانيا؛ الأمر الذي يجعل الخيار السياساتي العام الأمريكي تجاه روسيا خيار مواجهة، وذلك في إطار السعي الأمريكي للحفاظ على النظام الدولي القائم، لا سيما أن روسيا تنشط في مناطق جغرافية عدة: أوربا، وآسيا الوسطى، والشرق الأوسط. وعلى الرغم من ذلك، لا تُبدي إدارة بايدن في استراتيجيتها اهتماماً بمواجهة روسيا في الساحة السورية مقارنةً بما توليه من اهتمام بخيار المواجهة في الساحة الأوكرانية؛ كما أنها لم تتطرق بشكل مباشر لمحددات تعاطيها مع النظام السوري.
بالمقابل، تعاطت استراتيجية إدارة ترامب مع النظام السوري وفق محدد خطر استعماله للأسلحة الكيميائية، والذي كان قد اتضح على أرض الواقع بالهجوم الصاروخي الذي نفذته الولايات المتحدة ضد مطار “الشعيرات” في محافظة حمص في نيسان/أبريل 2017، وذلك عقب الهجوم الكيميائي الذي نفذه النظام السوري في ذات التاريخ. ويُعتبر هذا الهجوم الصاروخي الهجوم الوحيد الذي نفذه الجيش الأمريكي في سورية منفرداً خلال فترة الحرب، إذ يأتي ذلك متناسقاً مع مقاربة الحزب الجمهوري التي تعطي أولوية لاستخدام القوة الخشنة كأداة فاعلة في السياسة الخارجية.
بالمقارنة، لا تحبِّذ مقاربة الحزب الديمقراطي للسياسة الخارجية استخدام القوة الخشنة بشكل نشط؛ الأمر الذي يتجلَّى في استراتيجية إدارة بايدن الأخيرة أيضاً، والتي اعتبرت فيها أن السعي لتحقيق نتائج مستدامة عن طريق سياسات عسكرية-المركز كان مبنياً على “إيمان غير واقعي بالقوة وتغيير الأنظمة”. ما يجعل هذه الاستراتيجية تولي أهمية أكبر للوسائل غير العسكرية ومن بينها الدبلوماسية، وهو ما يتضح في مقاربتها لإيران بشكل عام وملف السلاح النووي بشكل خاص؛ والتي تسعى إدارة بايدن في استراتيجيتها للتعاطي معه بوسائل “الدبلوماسية” لضمان عدم حصول إيران على سلاح نووي، والإبقاء على الوسائل الأخرى في حال عدم نجاح الوسائل الدبلوماسية، الأمر الذي يزيد من احتمالية حصول إيران على اتفاق نووي جديد بعد فسخ إدارة ترامب للاتفاق الأول في عام 2018.
ختاماً، وفي سياق تبنِّي إدارة بايدن لمقاربة تعطي أولوية لـ “خفض التصعيد”، و”الحد من مخاطر اندلاع صراعات جديدة” في منطقة الشرق الأوسط؛ يُرجَّح أن تبقى مقاربة إدارة بايدن تجاه الملف السوري داعمة لتجميد الصراع على المستوى العسكري. وبالتالي الإبقاء على خارطة مناطق النفوذ الحالية، بهدف تأمين استقرار عسكري وأمني نسبي يحول دون عودة تنظيم الدولة لنشاطه السابق في المنطقة، ودون زيادة نفوذ الفواعل الإقليمية والمحلية الأخرى في الساحة السورية، ودون حصول موجات هجرة جديدة. ووفقاً لما سبق، ومع الأخذ بعين الاعتبار نتائج الانسحاب الأمريكي الأخير من أفغانستان على كافة المستويات بما فيها انعكاساتها على السياسة الأمريكية الداخلية؛ يصعب الحديث عن انسحاب أمريكي من سورية حالياً، وإنما يُرجح بقاء التواجد الأمريكي الداعم لتجميد الصراع، الأمر الذي يُبقي على الوضع الراهن من دون وجود فاعل أو قوة مهيمنة في الساحة السورية. ومع ذلك، ستبقى محددات المقاربة الاستراتيجية عرضة للتبدل أو التغير في حال ظهور متغيرات جديدة تفرض نفسها على اعتبارات الأمن القومي.
فاضل خانجي _ مركز عمران للدراسات