بعد قراءتي لبعض المراجع التاريخية التي تتناول تاريخ العلويين وبغض النظر عن الخلط والأخطاء في المعلومات حول بعض الأحداث وبعض الشخصيات الوهمية التي ساقها المؤلفون وأكدوها دون بحث، أقول بغض النظر عن تلك الهنات توصلت إلى نتيجة ربما تكون صادمة وقد لا تعجب عشاق المظلومية والبكاء على تاريخهم الشهيد ٫ وقد يبدو الكلام غريبا أيضا لبعض أبناء الأقليات الذين يصدقون حكاية الاضطهاد الطائفي والمذهبي تاريخيا.
فالمؤرخون يذكرون أن بدايات العشائر العلوية كانت في حمص وتحديدا في جهتها الغربية وكذلك في حماة ثم انتشرت تلك العشائر إلى صافيتا، ومنها إلى جبلة وباقي مناطق ما يعرف الآن باسم جبال الساحل أو جبال العلويين، وكلمة جبال العلويين فيها الكثير من الخلط أيضا فقد كانت جبالا وهضابا لكل منها تسميته الخاصة التي لا تمت للطائفة العلوية بصلة غير أن كثرة العلويين في تلك الجبال دفع بالبعض لإطلاق هذه التسمية على المناطق الممتدة من اسكندرون في الشمال مرورا ببعض أنحاء طرابلس على طول الخط الساحلي وهذا الانتشار لم يأت نتيجة لنزوح علوي اتجاه المنطقة، وإنما بسبب تبني أبناء المنطقة للفكر العلوي والذي ازداد خلال فترة الحكم البيزنطي لاسكندرونة وكيليكية وغيرهما من المدن التي كانت تابعة لبيزنطة المنهارة أصلا.
وقبل أن يصبح المذهب العلوي مذهبا منغلقا على نفسه ولا يقبل الداخلين إليه، شهد في بدايات تأسيسه حركة تبشير واسعة ولم يذكر المؤرخون أن المبشرين قد تعرضوا للاضطهاد في السنوات الأولى للتبشير العلوي والدليل سيطرة هذا الفكر على “الدولة الحمدانية” حتى أن بعضهم يرى أن سيف الدولة ذاته قد تبنى الفكر الجديد وأعلن انتماءه للعلوية كمذهب له وللدولة.
من أين جاءت فكرة المظلومية إذا؟
في بداية العهد الأيوبي أراد صلاح الدين تأسيس دولة مركزية فكان لا بد من القضاء على الإمارات والزعامات المحلية وفرض هيبة دولته الجديدة على جميع المناطق التي يسيطر عليها جيشه، كما أن بعض الزعامات العلوية قادت عصابات لقطع الطرق وتهديد التجارة الداخلية والخارجية الأمر الذي يترتب عليه تبعات اقتصادية سلبية ولقد ترافق الأمر بالطبع مع تبريرات طائفية كان القصد من ورائها حشد ما أمكن من المقاتلين فكان قرار صلاح الدين بمهاجمة تلك المناطق والقضاء على أمراء الحرب وفرض هيبة الدولة وقوانينها ما أمكن، وأيضا ترافقت حملته تلك ببروغادا دعائية قائمة على الطائفية أيضا فكان الهدف المعلن تأديب الكفرة العلويين وردهم إلى الطريق السني، أما الأهداف الحقيقية فقد كانت سياسية واقتصادية بحتة، وطبعا تلك الحروب لا بد وأن تطال الأبرياء من الفلاحين والفقراء وعمال الأراضي الذين لا ناقة لهم في المعارك ولا جمل.
جاء المماليك وساروا على منهج الأيوبيين في إخضاع المناطق النائية والتي كانت تشهد بلبلات ومعارك بين الفلاحين (أبناء المنطقة العلويين) وبين أهالي المدن وفي تلك الفترة أعلن رجل علوي أنه المهدي المنتظر وجمع حوله عددا كبيرا من الأتباع وقطعوا طرق التجارة، وقاموا بالهجوم على بعض القرى والمدن فجنّد لهم المماليك قوة عسكرية كبيرة مستخدمين فتوى ابن تيمية حول العلويين ووجوب قتلهم ومحاربتهم وتحليل أرزاقهم وأموالهم وأعراضهم وأرواحهم، بل إن المؤرخين يؤكدون أن ابن تيمية نفسه شارك ببعض تلك الحملات، في مدينة جبلة قتل المماليك المدعي بأنه المهدي المنتظر مع عدد كبير من اتباعه وانتهت الأمور تقريبا عند هذا الحد فلم يتوغل المماليلك في مناطق العلويين وإنما عقدوا صلحا مع زعاماتهم على أن يقوموا بجمع الضرائب المترتبة لصالح الدولة المملوكية.
أما الحديث عن هروب إلى الجبال نتيجة الاضطهاد الديني فهذا ادعاء واضح الكذب ومحض افتراء على التاريخ فكلنا يعلم أن الفلاحين في أصقاع المنطقة العربية وخاصة في مصر وبلاد الشام عانوا الأمرّين من الضرائب والإتاوات، فكان معظمهم يترك أرضه ويبتعد نحو المناطق التائية هربا من جور تلك الضرائب وخوفا من وقوعهم ضحايا معارك أمراء الحروب ولم يكونوا قلة في تلك الفترة.
ويذكر كتاب (الحياة الاجتماعية في بلاد الشام في عهد المماليك) أن أحد الأمراء قام بمصادرة قمح الفلاحين في منطقة صفد ونقله للتخزين في قلعة دمشق ويضيف المصدر ذاته (ومما زاد وضع الفلاحين سوءا كثرة المغارم والضرائب وإجبارهم على أدوات لا يحتاجونها وبالسعر الذي تفرضه الدولة ……وقد أدت المظالم الواقعة على الفلاحين إلى دمار الزراعة وانهيارها بسبب ترك الفلاحين لأراضيهم).
إذا الظلم لم يكن واقعا على طائفة دون غيرها بل على الجميع تقريبا ولذلك يصف المفكر ابن خلدون العاملين في مجال الزراعة بقوله (إنها معاش المستضعفين ويختص أهلها بالذلة).
هذا كلام عام يشمل الفلاحين من جميع الطوائف والمذاهب والأديان ولا يختص بالعلويين وحدهم ولكن حكايات الاضطهاد والمظلومية مستساغة عند البعض كما أنها وسيلة تحريض على الحقد والكراهية لآسباب سياسية – مصلحية ولسوف نكمل في مقال تال أوضاع العلويين وقصص مظلوميتهم خلال فترة الحكم العثماني.
الكاتب فؤاد حميرة – زمان الوصل