تمكنت الليرة السورية من الحفاظ على تماسكها بعد آخر النكسات التي تعرضت لها في شباط/فبراير 2021، حين خسرت نحو 20 في المئة من قيمتها، لتبلغ 3350 أمام الدولار، وهو سعر الصرف الذي ظلت تراوح حوله طيلة العام.
بداية مهتزة
العملة السورية كانت قد دخلت سنة 2021 وهي تعاني من حالة قوية من عدم الاستقرار، متأثرة بتصعيد العقوبات الاقتصادية على النظام، والمشكلات الكبيرة التي عانى منها الاقتصاد اللبناني الذي ظل المتنفس الوحيد تقريباً للنظام، بالإضافة إلى الأزمة التي عصفت بالعلاقة بين عائلة الأسد وذراعها الاقتصادي الأقوى رامي مخلوف، ابن خال رئيس النظام بشار الأسد.
مجموعة أسباب جعلت الليرة تتراجع منذ بداية صيف العام 2020، لتبلغ أكثر من ثلاثة آلاف مقابل الدولار مطلع 2021، وهو السعر الذي استقرت عليه لفترة قصيرة، قبل أن تتعرض لنكسة جديدة في شباط/فبراير 2021.
فقد أدى طرح البنك المركزي فئة جديدة من العملة المحلية بقيمة 5 آلاف، هي الأعلى بتاريخ سوريا، إلى تأثر سوق الصرف سلبياً، حيث انخفضت قيمة الليرة على الفور بنسبة 18 بالمئة، مسجلة 3450 ليرة مقابل الدولار.
ورغم محاولات النظام تجاهل الانخفاض الأخير في ذلك الوقت، واعتباره تقلباً مؤقتاً وناتجاً عن رد فعل نفسي تجاه طرح الورقة النقدية الجديدة، إلا أن نسبة الانخفاض تلك ترسخت بمرور الوقت ليحافظ سعر صرف الليرة على هذا الرقم طيلة أكثر من عشرة أشهر.
ويرى الكاتب والمحلل حسن محفوظ أن هناك عوامل أساسية لعبت دوراً حاسماً في الحفاظ على استقرار أسعار الصرف خلال الأشهر الماضية، يأتي على رأسها تخلص النظام من أعباء كانت تكلفه مبالغ ضخمة قبل ذلك.
ويضيف في حديث ل”المدن”، “أسهم توقف العمليات العسكرية خلال العام 2021 بتوفير النظام مبالغ ضخمة كانت تستنزف في المعارك، إضافة إلى الكتلة المالية الكبيرة التي وفرها تقليص الدعم المخصص للمواد الأساسية والمحروقات في تقلص مدفوعاته من العملة الصعبة، وبالتالي استقرار سعر الصرف”.
وعلى مدى الأشهر الماضية برزت بوضوح توجهات النظام نحو رفع الدعم عن الكثير من السلع والمواد الغذائية التي توفرها المؤسسة العامة للتجارة من خلال نظام البطاقة الذكية، بفرض زيادات متتالية في أسعار هذه السلع، أو عدم توفيرها بالسعر المدعوم، بالإضافة إلى رفع أسعار حوامل الطاقة والمحروقات لتصل في الغالب إلى مستوى أسعار السوق الحرة.
غياب الثقة والموارد
إلا أن هذه العوامل التي ساهمت في استقرار سعر الليرة في 2021، لن تكون كافية لاستمرار الأداء على هذا النحو في الغالب، حيث يعتبر الكثيرون من الاقتصاديين أن كبح سعر الصرف يحدث حتى الآن ب”القوة” وليس نتيجة محددات اقتصادية طبيعية، ما يبقي المخاطر قائمة باستمرار.
ورغم رفع حكومة النظام الدعم عن الكثير من المواد والسلع، إلا أن العجز في ميزانية العام 2022 التي أقرت قبل أسابيع يبلغ أكثر من أربعة مليارات ليرة، وهو رقم لن يكون بمقدور النظام تعويضه، بالنظر إلى عوامل عديدة تفرض نفسها، ما يرشح الاقتصاد السوري لمواجهة متاعب مضاعفة، كما يرى الخبير الاقتصادي محمد الحاج بكري.
ويقول في حديث ل”المدن” حول السيناريوهات المتوقعة لليرة في العام القادم، إنه لن يكون يكون أمام النظام سوى اللجوء إلى طبع المزيد من العملة، ما يؤدي بالضرورة إلى ارتفاع مستويات التضخم وانخفاض سعر العملة، مشيراً إلى أسباب ذلك ب”توقف عجلة الانتاج واستمرار هروب رؤوس الأموال، وغياب البيئة المشجعة على العمل والاستثمار، وعدم قدرة حلفاء النظام على مساعدته في سد العجز المالي الذي يعاني منه، وغياب أي امكانية للاستدانة من الخارج، أو بيع سندات خزينة في الداخل بسبب انعدام الثقة بالاقتصاد السوري، بالإضافة إلى عدم سيطرته على أي من الثروات والموارد الطبيعية، كالنفط والغاز والفوسفات..الخ”.
ومع ذلك لا زالت أمام النظام مصادر أخرى للحصول على العملة الصعبة، مثل الحوالات الخارجية وإجبار التجار والصناعيين على وضع أرصدة في البنك المركزي لمدفوعاتهم المخصصة للاستيراد والتصدير، لكن بسعر الصرف الرسمي، المحدد بـ 2500 ليرة مقابل الدولار، وهي موارد رغم تفاوت التقديرات بشأنها، إلا أنها لعبت دوراً مهماً في منع انهيار العملة المحلية بشكل أكبر.
لكن الحاج بكري يرى أن عاملاً ثالثاً يُضاف إلى ما سبق وسيعتمد عليه النظام في معركة الليرة خلال الأشهر القادمة، وهو التجارة البينية مع المناطق الخارجة عن سيطرته، والتي تدر عليه مبالغ كبيرة من العملة الصعبة، بالإضافة إلى الدور الذي يمكن أن يلعبه توظيف أموال تجارة المخدرات والتي باتت جزء أساسياً من اقتصاد الظل الذي يعتمد عليه.
ورداً على سؤال حول ما إذا باتت لدى النظام خبرة في التعامل مع الظروف الاقتصادية الصعبة التي يواجهها، وبالتالي إمكانية التفوق عليها وتحقيق اختراقات معينة، يقول الحاج بكري: “لا توجد لدى النظام اليوم خبرات تستطيع اجتراح حلول علمية للمشاكل النقدية والاقتصادية التي يعاني منها، لأن سياساته المالية تدار من قبل أجهزة الأمن وليس من قبل الوزارات والمؤسسات المختصة، ولذلك نرى أن أبرز ما قام به خلال العامين الماضيين هو ضبط عمليات تحويل الأموال وفرض المزيد من الضرائب وزيادة الرسوم على الحواجز وعمليات النقل والشحن، بالإضافة إلى اتخاذ إجراءات مستمرة تستهدف الحجز على رؤوس الأموال ومصادرة أملاكهم”.
إجراءات لا يمكن أن توصف بأنها تمِتُ لقواعد الاقتصاد العلمي بأي صلة، وبالتالي من غير الوارد الاعتماد عليها في بناء تصورات علمية أو استشراف أي امكانية لصمود الليرة في المستقبل من دون تدخل خارجي قوي يسهم في منع انهيار اقتصاد الدولة، الذي لم يعد ممكناً في سوريا، ومنذ وقت طويل، الفصل بينه وبين اقتصاد أركان النظام والمتنفذين فيه.
عقيل حسين _ المدن