“كلما كنت أطالب بأجر مساو لقيمة عملي كانوا يذكرونني بالاجتماعات التي لم أحضرها وبكم الإجازات التي أخذتها فترة حملي، حتى بعد مضي عامين على ذلك”. هكذا تروي عائشة (29 عاماً) المهندسة المدنية السورية المقيمة في إسطنبول قصتها مع تجربة عمل سابقة تعرضت خلالها لعدم المساواة بسبب ما فرضته عليها طبيعة المرأة البيولوجية في أداء وظيفة الحمل والإنجاب.
وفقاً لمنظمة العمل الدولية فإن انعدام المساواة بين الجنسين في سوق العمل هو أحد أكبر أشكال انعدام المساواة اليوم، وأهم العوامل المحددة له هي انعدام المساواة في الحصول على عمل أو عدم المساواة في الأجور، أو حتى عدم المساواة في الوصول إلى المناصب العليا.
وما زالت المرأة في العالم والمرأة السورية اللاجئة في تركيا على وجه الخصوص تعاني من التمييز والاستغلال في سوق العمل وسط غياب حلول جذرية وسياسات تراعي المطالب غير المتكافئة التي تواجهها من حمل وإنجاب ومسؤوليات رعاية.
أجر مخفض وتجمد وظيفي.. على ماذا ينص قانون العمل التركي؟
تعرضت عائشة التي تعمل في إحدى شركات الإنشاء لمشكلات صحية في حملها الأول ما تطلب منها الراحة والمتابعة المستمرة عند الأطباء. لم يتخل عنها مديرها في العمل بسبب حاجتهم لكفاءتها كما تقول، ولكن كفاءتها لم تشفع لها أمام صاحب العمل وتردعه عن استغلالها.
تروي عائشة قصتها لموقع تلفزيون سوريا: “سمح لي بالعمل من المنزل مراعاة لأزمتي الصحية التي ستستمر طويلاً ولكن تم ذلك بعد اقتطاع نصف راتبي على الرغم من عدم تخفيض مهامي”. مع ذلك فضلت عائشة الاستمرار بالعمل من المنزل لتكون قادرة على القيام بالإرضاع الطبيعي بعد الإنجاب.
وفقاً لموقع مؤسسة الضمان الاجتماعي -استناداً على قانون العمل التركي- يحق للمرأة العاملة -الحاصلة على إذن عمل- الحصول على إجازة لمدة ستة عشر أسبوعاً أي ثمانية أسابيع قبل الولادة وثمانية أسابيع بعدها وفي حال الولادة المبكرة، تضاف الإجازة غير المستخدمة قبل الولادة إلى إجازة ما بعد الولادة، كما يتم منح المرأة العاملة إجازة مدفوعة الأجر للفحوص الدورية في أثناء فترة الحمل.
وفي حالة الرضاعة الطبيعة يحق للمرأة الحصول على إجازة الرضاعة الطبيعية لمدة ساعة ونصف يومياً للأطفال دون سن السنة. ويحق للمرأة تحديد طريقة استخدام هذه الإجازة. كما تعتبر مدة إجازة الرضاعة جزءا من وقت العمل اليومي بالإضافة إلى ذلك يحق للمرأة الحصول على إجازة بدون راتب تصل إلى ستة أشهر وذلك بعد انقضاء مدة الأسابيع الستة عشر.
لم يقتصر أثر فترة الحمل والإرضاع على أجر عائشة فحسب، فتقول إن عملها من المنزل لفترة طويلة أثر على نموها الوظيفي، وعدم وجودها في مقر العمل منع وصولها إلى مناصب أعلى وجمدها في مكانها.
فجوة في الأجور لم تنته بزوال سببها
على خلاف عائشة التي حكمت عليها وظيفتها البيولوجية بالحمل والإرضاع بتقبل الأجر غير العادل والحرمان من النمو الوظيفي، كانت واجبات الرعاية التي فرضتها الأعراف المجتمعية هي سبب قبولها بعمل ذي أجر مجحف كما تقول.
حنان لاجئة سورية وأم لثلاثة أطفال تقيم في إسطنبول وتبلغ من العمر 35 عاماً، تقدمت للعمل في إحدى المنظمات وتفاوضت مع الإدارة على العمل من المنزل فوافقت الإدارة على عرضها ولكن بعد تخفيض التعويض للنصف بذريعة أنها ستعمل من المنزل فيما سيعمل بقية الموظفين من مقر العمل.
قبلت حنان بشروطهم دون أن تقتنع بحجة الإدارة، ولكن العرض كان أفضل بالنسبة لها من البقاء دون عمل، كما تقول لموقع تلفزيون سوريا.
وتكمل حنان قصتها: “بعد فترة قصيرة من توظيفي تفاقمت أزمة كورونا في تركيا واتخذت المنظمة التي أعمل بها قرار العمل من المنزل لجميع الموظفين، فطلبت من الإدارة إعادة النظر براتبي على اعتبار أن السبب الذي خلق الفجوة الكبيرة بين راتبي ورواتب زملائي لم يعد قائماً”. قوبل طلب حنان بالرفض واستمر طاقم المنظمة بالعمل بالكامل من المنزل لشهور مع فارق كبير بالأجور بينها وبين زملائها.
وفقاً لتقارير الأمم اللمتحدة تتقاضى النساء أجورًا أقل من الرجال في جميع المناطق، وبلغت فجوة الأجور بين الجنسين في تركيا لعام 2018 نسبة 15.6 في المئة مع غياب نسب توضح وضع اللاجئين على وجه الخصوص.
وبالنظر إلى المساعي الدولية لتقليص هذه الفجوة عالمياً تنادي الأمم المتحدة بتعزيز مفهوم “المساواة في الأجر مقابل العمل ذي القيمة المتساوية” وتحدده كواحدة من أكثر الآليات فعالية لتقليل الفجوة في الأجور.
نسبة الفجوة في الأجور في تركيا عام 2018 – موقع منظمة العمل الدولية
اللامساواة في الأجر أفضل من عمل غير مدفوع الأجر
على الرغم من إدراك حنان لتعرضها للاستغلال بسبب ظروفها والتزامها بالبقاء إلى جانب أطفالها فإنها وجدت ذلك أفضل من بقائها في المنزل لرعاية الأطفال فقط.
يشير تقرير مؤتمر العمل الدولي لعام 2021 إلى أن النساء والفتيات ما زلن يؤدين النصيب الأكبر من أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر، فتقضي النساء في المتوسط 4 ساعات و25 دقيقة يومياً في أداء أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر، في حين يقضي الرجال ساعة واحدة و23 دقيقة فقط لأدائها، وعلاوة على ذلك فإن 21.7% من النساء يقمن بالرعاية غير المدفوعة على أساس التفرغ في حين لا تتعدى نسبة الرجال المتفرغين لهذه الأعمال الـ 1.5%.
وفي حالة عائشة وحنان لم يقتصر الأمر على قبول كل منهما العمل بأجر منخفض لتلبية مسؤوليات الرعاية غير المدفوعة، بل واجهتا مشكلة تلقي المزيد من المهام طوال اليوم من قبل أصحاب العمل مستغلين عملهما من المنزل، فعملت كل منهما لساعات إضافية من دون مقابل كما تقولان، لتواجها عملاً غير مدفوع الأجر من نوع آخر.
طفلة جديدة تقلب الموازين
على خلاف عائشة وحنان، عملت سمر (30 عاماً) المقيمة في إسطنبول في بيئة عمل عادلة توفر تكافؤ الفرص وتساوي الأجور لكلا الجنسين، فاستطاعت على الرغم من سنها الصغير الحصول على ترقيات أوصلتها إلى منصب إداري من أعلى المناصب في المؤسسة كما تروي، ولكن انقبلت الموازين بالنسبة لسمر بعد إنجابها لطفلتها الأولى.
واجهت سمر المشكلة الأولى حين لم تجد في مقر عملها مكاناً مخصصاً لرعاية الأطفال كما تقول ولكن -مراعاة لوضعها- سمح لها بالعمل عن بعد وفي المقابل دفعت ما يقارب الـ 40 في المئة من راتبها ثمناً لهذا الامتياز.
مع ذلك لم يكن تقديم الرعاية لطفلة رضيعة والعمل في آن معاً -حتى و لو كان من المنزل- أمراً سهلاً بالنسبة لسمر كما قالت، ومع تخفيض راتبها لم تكن قادرة على تحمل مصاريف الرعاية المكلفة، ما اضطرها لترك العمل.
تشير دراسة مشتركة بين منظمة العمل الدولية ومؤسسة غالوب لعام 2016، إلى أن عدم توفر رعاية ميسورة الكلفة للأطفال أو أفراد الأسرة تؤثر تأثيراً سلبياً على مشاركة النساء في سوق العمل.
فيما بعد حظيت سمر بفرصة عمل بظروف أسهل وبمقابل مادي يمكّنها من تحمل مصاريف الرعاية على حد وصفها، ولكن اكتشفت أن المشكلة الأكبر هي إيجاد مركز رعاية أو حتى شخص مؤهل موثوق لرعاية طفلة رضيعة.
وتقول سمر إن غياب مراكز رعاية أطفال حديثي الولادة تخضع لرقابة الدولة هو أمر يصعّب على الأم العاملة الاستمرار في عملها بعد الإنجاب، خاصة في ظروف اللجوء وغياب الأهل الذين عادة ما يعتمد عليهم في ظروف مماثلة.
وتختم سمر حديثها: “أصبح عمر ابنتي عاما وثمانية أشهر وحتى الآن لا أستطيع أن أعود إلى العمل بنفس السوية”.
وعند سؤال ياسمين مرعي مؤسسة ومديرة منظمة “نساء من أجل مساحات مشتركة” عن الدور المحتمل الذي يمكن أن تلعبه منظمات المجتمع المدني في حل هذه المشكلة، تقول: “نحتاج للضغط باتجاه اعتماد سياسات موارد بشرية أكثر حساسية جندرية”.
وتشير مرعي إلى أنها ليست متأكدة من الأثر قريب المدى الذي يمكن التحدث عنه، على اعتبار أنه ليس هناك إطار قانوني جامع لمنظمات المجتمع المدني السورية، إذ تعمل كل منظمة حسب قانون البلد الذي توجد فيه.
وتضيف: “فيما يتعلق بالسياسات الداخلية مازلنا بعيدين عن سياسات حساسة للجندر”.
لكن على الأقل في إطار المنظمات النسائية/ النسوية، يمكننا العمل على وضع سياسات عمل منصفة للنساء وداعمة لظروف الحمل والولادة، في محاولة للتأسيس لأطر قانونية لها على المستوى البعيد.
تعتمد الأمم المتحدة المساواة بين الجنسين والحد من أوجه عدم المساواة بكافة أوجهه كهدفين أساسيين ضمن أهداف التنمية المستدامة، وتشير المادة 23 من حقوق الإنسان إلى حق العمل وتنص في شقيها الأول والثاني على أن لكلِّ شخص الحقُّ في العمل، وفي حرِّية اختيار عمله، وفي شروط عمل عادلة ومُرضية، وفي الحماية من البطالة. كما لجميع الأفراد، دون أيِّ تمييز، الحق في أجٍر متساوٍ على العمل المتساوي .
ووصول المرأة لهذه الحقوق يتطلب تغيرات هيكلية في بنية المجتمع الذي يحمّل المرأة كافة مسؤوليات الرعاية، وكذلك جهوداً أكثر فاعلية من منظمات المجتمع المدني التي غاب دعمها الملموس في تركيا في هذه القضية، بالإضافة لوجوب سن قوانين عمل تتلاءم مع المتطلبات الإضافية التي تفرضها طبيعة المرأة البيولوجية عليها.
“تم إنتاج هذه المادة الصحفية بدعم من “JHR – صحفيون من أجل حقوق الإنسان”
مزنة عكيدي _ تلفزيون سوريا