مقدمة
لا يمكن تبرير أي حالة عنف ضد الأطفال، فجميع أنواع العنف ضدّهم يمكن منعها. ومع ذلك تؤكد الدراسات المختلفة أن هذا العنف موجود في كل بلدان العالم، وهو يشمل جميع الثقافات والطبقات والمستويات التعليمية والأصل العرقي.
لا يقتصر العنف البشري على نوعٍ أو شكلٍ أو لونٍ بعينه، ولا يكون مقصده جهة واحدة بعينها، ولا يكتفي بمستوى معين؛ فالعنف البشري يمارس على الطبيعة الحيّة، باعتبارها “جسدًا ميتًا لا يُحس”، وأنَّ الإنسانَ خَيْرُ المخلوقات على الأرض مُسلّطٌ عليها، يحقّ له، بل من واجبه، ترويضها وإخضاعها واستثمارها بالقدر الذي يلبي حاجاته “اللامحدودة”!! مُلقيًا بفضلاته الملوِّثة والمدمِّرة باستهتار في البحر والجو واليابسة وباطنه، حتى باتت الطبيعة الحية وغير الحية تئنّ وتصرخ من الوجع.
وعنف البشر نحو بعضهم بعضًا هو عنف الأقوياء على الضعفاء، والأغنياء على الفقراء، والبيض على الملونين، والرجال على النساء، والكبار على الصغار، والأصحّاء على المعوّقين.
يصحّ ما تقدم على المستوى المُكبر (الكوكبي)، وكذلك على المستوى المصغَّر(الفردي)، وبيئات العنف ودوائره متداخلة في بعضها، بدءًا من البيئة الأسرية، مرورًا بأماكن العمل (الورشات غير الرسمية وغير المحكومة بقواعد وقوانين ترعى حقوق الأطفال)، وبمراكز الإيواء أو الاحتجاز وبالمؤسسات التعليمية وخارجها، وبالتجمعات شبه العسكرية التي تجذبهم إليها.. إلخ.
التمييز شكل من أشكال العنف، والحرمان المادي والثقافي والعاطفي أشدّ أنواع العنف، خصوصًا عندما يكون موجّهًا صوب الفئات الضعيفة، فتكون آثاره كارثية.
التجاهل عنف، ورفضُ الآخَر والسعي لتهميشه، أو إبعاده أو تصفيته، عنفٌ؛ فرض الإرادة من جانب الكبير والقوي وصاحب النفوذ عنفٌ؛ إكراه الشعوب الضعيفة على اعتناق ثقافة الغزاة ودياناتهم عنفٌ.
ومن المؤكد أن العنف يُولِّد العنف: عنف المدرسة يقابله عنف الطلاب، وعنف الآباء أو الأمهات يقابله عنف الأبناء، وعنف الحكومات يقابله تمرد وعنف الشعوب، وقسوة الإنسان على الطبيعة تقابله الطبيعة بقسوة مضادة، وهكذا تكتمل الحلقة، والحلقات، ولا فكاك منها إلّا بكسر دوائر العنف.
1- العنف الموجه للطفل في سورية
يُعدّ المجتمع السوري واحدًا من المجتمعات التي يسود سلوك العنف، بأشكاله ودرجاته المختلفة، في جميع أوساطها وبيئاتها، بدءًا من الأسرة، مرورًا ببيئة التعليم/ المدرسة، والشارع والحي، وداخل معاهد الأحداث والجانحين وداخل ورشات العمل. وفي أحيان ليست قليلة، يحظى العنف ضد الأطفال بقبولٍ اجتماعي، وهذا وضع يُدخل المجتمع والدولة في تناقض مع التزاماتها المعلنة بحقوق الإنسان والاحتياجات الإنمائية للأطفال[1].
وعلى الرغم من ندرة الدراسات عن العنف الموجه نحو الطفل، فإن ما هو متيسر منها يفيد بصحة الفكرة التي تزعم أن العنف منتشر في المجتمع السوري، وفي حالات كثيرة يكون سلوكًا مبررًا، ما دامت آثاره غير مرئية.
ومن تلك الدراسات، نذكر:
– دراسة المعلولي 1999[2]، حيث أفاد مسح اجتماعي واسع في عشوائيات دمشق وريف دمشق بوقوع ظاهرتي العمالة المبكرة بين سكان الريف المهاجرين إلى المدن وضواحيها، والزواج المبكر للذكور والإناث؛ حيث بلغت نسبة المشتغلين 7 % من مجموع الأولاد، ويمثلون 35.5 % من مجموع المنقطعين عن الدراسة، ينتمي معظمهم (85 %) للفئة العمرية (15- 17 سنة)، مقابل (15 %) من الفئة العمرية (12 – 14 سنة). وغالبيتهم من الذكور[3].
ونحو 12 % من النساء في البيئة ذاتها تزوجن قبل بلوغهن الخامسة عشرة، ونحو 60 % تزوجن قبل بلوغهن التاسعة عشرة. وظهر أن الفتيات اللاتي تزوجن في عمر مُبكّر هُنَّ غالبًا من الأميّات، ويرتفع متوسط عمر الزواج طردًا مع حصولهن على مزيد من سنوات التعليم.
- دراسة المعلولي (2003) [4] حول “جودة البيئة المدرسية وعلاقتها بالأنشطة البيئية”، وجوابًا عن سؤال مفتوح طُرح على عيّنة من الطلاب حول العلاقة بينهم وبين كلّ من: المعلمين، ومدير المدرسة، والموجّهين الإداريين، وعمال الخدمة في المدرسة، كيف يفضّلها الطالب أن تكون؟ كانت حصيلة إجاباتهم على النحو التالي: “أن تسود المحبة فيما بينهم، أن يعاملوا كأبناء، تقبلهم وتفهمهم، التساهل معهم، تلبية حاجاتهم، توفير الراحة لهم، توفير الظروف التي تؤدي إلى سعادتهم وراحتهم النفسية، احترام حقهم في الوجود داخل الصف، وعدم إخراجهم منه، الاستماع إلى شكواهم واحترام آرائهم، احترام المريض منهم وعدم تكذيبه، توفير حاجتهم للماء والنظافة في المدرسة، العطف، تقديم يد العون والمساعدة عندما يطلبون أو يحتاجون لها، التعاطف، اللطف في المعاملة، الحنان، منحهم الحرية، المرح والمزاح معهم، نبذ التهديد بالفصل من المدرسة أو بالعقوبة الجسدية أو بإرسالهم إلى المدير أو بخفض علاماتهم، اتباع أسلوب المناقشة معهم، الهدوء والروية في التعامل مع مشكلاتهم، التسامح معهم، مساعدتهم في حل مشكلاتهم، حمايتهم من الأذى في المدرسة، تشجيعهم على إبداء آرائهم، تعزيز المجدّين منهم.
– دراسة بركات (2004)[5] (العنف الموجه ضد الطفل) دراسة مسحية في مدارس التعليم الأساسي، وقد شملت عينة واسعة من الأسر والأطفال والمعلّمين، على امتداد المحافظات السورية وبيئاتها الحضرية والريفية. وأفاد التلاميذ أنهم تعرضوا للعنف في أسرتهم من نوع: الكلام الجارح (88 %)، الضرب 72 %، الحرمان 49 %، التهديد 59 %، السخرية52 %، الحبس 42 %.
ومن وجهة نظر المعلمين، يمارس الأهل العنف بحق أولادهم بالأشكال التالية: الضرب 82 %، آثار ضرب مبرح 34 %، الخوف من الأهل 78 %، ألفاظ مهينة 81 %، إهمال 81 %، جسدية قاسية 60 %. وأفاد الأطفال بأن عنفًا يقع عليهم من قبل المعلم في المدرسة، وأغلبه: كلمات مهينة 80 %؛ ضرب بالمسطرة 73 %، تهديد بالعلامات 60 %، سخرية 56 %، ضرب وشد شعر 69 %، تهديد بالطرد 55 %. وكذلك أفاد المعلمون بأنهم يمارسون العنف بحق تلاميذهم في المدرسة، مثل: التهديد بالعلامات 69 %، الصفع 65 %، التهديد بالطرد 74 %، الضرب بالمسطرة 58 %، السخرية 41 %، ألفاظ مهينة 84 %.
- دراسة عز (2004)[6] “العنف ضد الأطفال في مؤسسات الأحداث/ الجانحون”، وقد أفادت أن العنف الموجه نحو الطفل يبدأ في مكان العمل قبل إيداعه المعهد، ومصادر العنف كانت من جهة رئيس العمل، ثم زملاء الطفل، وكانت أشكال العنف السائد: المعنوي، ثم الجسدي، وأخيرًا الرمزي.
– لدى إيداع الحدث الإصلاحية، أفادت نتائج المقابلات بأن 59 % من الأحداث تعرّضوا للعنف، من المشرفين ومن الزملاء ومن المدير والإداريين، وأعلى أنواع العنف: المعنوي، ثم الجسدي، ثم الرمزي.
– مسح اليونسيف (2009)، بالتعاون مع وزارة التربية بعنوان “نظام حماية الطفل في المدرسة”[7]، حيث أفادت نتائج تحليل الوضع الراهن في مدارس (العينة) بحسب المعلمين، أن الأطفال يعانون عنف الأقران والمعلمين، فضلًا عن عنف الأسر. ومن عنف الأقران: حمل سكاكين، تكوين عصابات (شلل)، ألفاظ نابية، إساءة جنسية، وغير ذلك. ومن أنواع العنف الصادر عن المعلمين: الضرب بالعصا أو باليد، شد الشعر، الرفس بالرجل، ألفاظ نابية، حرمان من درس النشاط. ومن عنف الأسر: الضرب بالحزام، الحرق، الإهمال. وهناك عنف من جانب مديري المدارس والموجّهين.
وبحسب الدراسة، فإن بيئة المدرسة تتحمل جزءًا من المسؤولية عن انتشار بعض أنواع العنف؛ فضيق المساحة المخصصة للطلبة، وندرة مياه الشرب، والاكتظاظ، في بيئة المدرسة، كلها شروط تؤدي إلى ممارسات عنفية بحق الأطفال..
2- العنف المصاحب للحرب في سورية
منذ انفجار الحرب وامتدادها على مختلف المناطق السورية تقريبًا منذ 2011، لم تعد سورية بيئة آمنة بالمطلق؛ فقد باشرت قوى السلطة بممارسة العنف ضد المختلفين عنها، بكل صنوفه وبمختلف درجاته، ثم ما لبثت قوى أخرى تمكّنت من التحوّل إلى قوى أمر واقع، في عدد من المناطق السورية، أن مارست العنف بحق السكان المدنيين، وعلى الرغم من شدة قبضة تلك القوى إزاء المختلفين عنها، فهي تتسم بالرخاوة، والتسيب عندما يتعلق الأمر بحياة وأمن الأطفال الموجودين تحت سلطتها، ما يؤثر على هشاشة عوامل الأمان اللازمة لحماية الطفل.
فالحرب فعل عنفي بطبيعته، يؤدي إلى القتل والجرح والرعب، تصحب العمليات الحربية ظروف غير عادية لا أمان معها، حيث تتحول البيئة إلى بيئة عنف؛ يكون الأطفال فيها من أوائل المتأثرين، فإذا حالفهم الحظ ونجوا من القتل، فهم عرضة لأن يصابوا أو يُخطفوا ويُتركوا وهم يحملون آثار الأسى النفسي والاجتماعي، نتيجة التعرض المباشر للعنف، أو التشريد من مكان الإقامة، أو الفقر أو فقد الأحبة. وغالبًا ما يجد أولئك الذين ظلوا على قيد الحياة أنفسهم محاطين بمعركة من نوع آخر، في مواجهة المرض، والمأوى غير الملائم، والافتقار إلى الخدمات الأساسية والتغذية السيئة[8].
خَبِرَ الطفل السوري جميع ألوان العنف، فالتوقيف والاعتقال التعسفي للأب أو الأخ أو الأم هو عنف، وحصار السكان العُزّل داخل بلداتهم وقراهم، ومنع الأدوية والأطعمة عنهم وتركهم للجوع والمرض والموت، لغاية التأديب والعقاب وربما التشفي، هو عنف، وكذلك قصف المدارس، وقتل بعض الأقران وتحويل مدارس أخرى إلى منصات إطلاق النار، أو مستودعات للذخائر، وتجنيد الأطفال[9] في النزاعات المسلحة وتعريضهم لمخاطر بدنية ونفسية، هو عنف مضاعف.
إن إكراه الناس على مغادرة بيوتهم وأحيائهم هو عنف، وتعريض الأطفال في المخيمات للجوع والبرد هو عنف، العمالة في سن مبكرة وتزويج الطفلة عنف، الجروح وفقدان أحد الاطراف أو الحواس عنف، العيش تحت خيمة في ظروف البرد والمطر والغوص في وحول دروب المخيم هو عنف… تنمّر الكبار والصغار من أهل البلد المضيف نحو الطفل اللاجئ هو عنف[10]، حرمانه من حقه في الذهاب للمدرسة، وحرمانه من حق التسجيل والهوية والنسب عنف[11].
أفادت نشرة اليونسيف (حقائق سريعة عن الأطفال والأزمة السورية بعد 11 عامًا) التي صدرت في آذار/ مارس 2022، بأن 12.3 مليون طفل محتاجون داخل سورية وخارجها، و3.2 مليون طفل نازح داخل سورية، و2.8 مليون طفل مسجلون لاجئين في بلدان الجوار، و20 % من الأطفال دون سن الخمس سنوات يعانون سوء تغذية حاد داخل سورية، ونصف مراكز الرعاية الصحية تعمل بكامل طاقتها.
إن كل أشكال العنف التي تم ذكرها تندرج تحت عنوان “سوء معاملة الطفل”، وتشمل جميع الإساءات: الجسدية والعاطفية والاعتداءات الجنسية والإهمال أو المعاملة المتهاونة أو الاستغلال التجاري أو غيره من أشكال الاستغلال التي من شأنها أن تتسبب في إلحاق الأذى بصحة الطفل أو حياته أو تطوره أو كرامته، في سياق علاقة تنطوي على المسؤولية والثقة أو السلطة، وتتسبّب في إلحاق أضرار فعلية أو محتملة بصحة الطفل، وتهدّد بقاءه على قيد الحياة أو نماءه أو كرامته في سياق علاقة من علاقات المسؤولية أو الثقة أو القوة[12].
3- إخفاء العنف الموجه للطفل
على الرغم من تنوع أشكال العنف ضد الأطفال، وتنوع الصفات الشخصية المميزة للضحية والفاعلين، لا يزال كثير من أنواع العنف الموجه ضد الأطفال خفيًا، لأسباب عدة، نذكر منها:
– الخوف من الإبلاغ: إذ يخشى كثير من الأطفال الإبلاغ عن حالات العنف الموجه ضدهم. وفي كثير من الحالات، يبقى الآباء الذين ينبغي أن يحموا أطفالهم صامتين، إذا ارتكب العنفَ الزوجُ أو أي أحد آخر من أفراد الأسرة، أو فرد آخر يتمتع بالقوة في المجتمع: رب العمل، أو ضابط الشرطة.
– قبول العنف على مستوى المجتمع: قد يقبل الأطفال ومرتكبو العنف على السواء بالعنف البدني والجنسي والنفسي، باعتباره أمرًا حتميًا وعاديًا. وينظر إلى المعاقبة البدنية والمهينة والترهيب غالبًا على أنه نوع من التأديب الذي يندرج في إطار المسائل العادية، خاصة عندما لا ينتج عن أي منها ضرر بدني ظاهر أو دائم؛ فالعنف ثقافة في العديد من المجتمعات. ووفقًا للمبادرة العالمية لإنهاء جميع أشكال العقوبة البدنية التي تمارس ضد الأطفال، لا يحظر 106 بلدان على الأقل استخدام العقوبة البدنية في المدارس، ولا يحظرها 147 بلدًا داخل أماكن الرعاية البديلة، وإلى الآن لم يحظر استخدامها في المنزل سوى 16 بلدًا[13].
– عدم وجود طرق آمنة أو موثوق بها من جانب الأطفال أو الكبار للإبلاغ عن العنف: في كثير من أنحاء العالم، لا يثق الناس في الشرطة أو الخدمات الاجتماعية، أو غيرهم ممن هم في السلطة، وفي أماكن أخرى، لا سيما المناطق الريفية، لا توجد سلطة يمكن الوصول إليها لإبلاغها بما حدث[14]. وهنا، لا بد من التنبيه إلى عدد من العوامل والمتغيرات التي تؤثر في معدلات تواتر حوادث العنف، منها: المستوى الاقتصادي- الاجتماعي، وتدهور المستوى التعليمي- الثقافي، وكذلك عمر الطفل وجنسه.
فقد أشارت تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن معدّل جرائم قتل الأطفال التي ارتُكبت في البلدان منخفضة الدخل، في عام 2002، كان ضعف معدلها في البلدان ذات الدخل المرتفع (2.85 مقابل 1.21 لكل 100000 نسمة). وتسجل أعلى معدلات جرائم قتل الأطفال وسط المراهقين، الذين تراوح أعمارهم بين 15 و17 سنة، وبخاصة الذكور (3.28 بالنسبة للبنات، و9.06 بالنسبة للذكور)، ووسط الأطفال الذين تراوح أعمارهم بين صفر و4 سنوات (1.99 للبنات و2.09 للذكور).
وتشير الدراسات إلى أن الأطفال اليافعين هم الأكثر عرضة لمخاطر العنف الجسدي، ويصيب معظم الضرر الناتج عن العنف الجنسي الأطفالَ الذين وصلوا إلى سن البلوغ أو المراهقة. والذكور أكثر عرضة لمخاطر العنف الجسدي من البنات، في حين تواجه البنات قدرًا أكبر من مخاطر العنف الجنسي والإهمال والبغاء القسري، فضلًا عن تأدية أنماط السلوك الاجتماعي والثقافي، والنماذج النمطية للأدوار[15].
وتكشف تلك الدراسات أن بعض مجموعات الأطفال تكون عرضة للعنف على وجه خاص. وهي تشمل الأطفال المعوقين، والأطفال المنحدرين من الأقليات العرقية والمنتمين إلى المجموعات المهمشة الأخرى، مثل “أطفال الشوارع” والأطفال الذين يرتكبون مخالفات قانونية والأطفال اللاجئين والمشردين… ووقد أثرت كل من فوارق الدخل المتنامية، والعولمة والهجرة والتحضر، والمخاطر الصحية، والتطورات التكنولوجية، والصراعات المسلحة، في الكيفية التي نعامل بها الأطفال.
4- آثار العنف الموجه نحو الطفل:
على الرغم من أنّ آثار العنف الذي يصيب الطفل تمتد إلى جميع من في المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه، فإن أول المتضررين من العنف هم الأطفال أنفسهم، حيث يؤدي العنف إلى:
– الوفاة عن طريق القتل الخطأ، من خلال استعمال الأسلحة البيضاء والأسلحة النارية مثلًا، من بين أعلى ثلاثة أسباب للوفاة لدى المراهقين، حيث يشكّل الفتيان أكثر من 80 % من الضحايا والجُناة.
– يُضعِف النمو العقلي للطفل ويعوق نمو الجهاز العصبي، خصوصًا عندما يحدث في مرحلة عمريّة مبكرة، فضلًا عن تعرض الغدد الصمّاء، والدورة الدموية، والنسيج العضلي الهيكلي، والأجهزة التناسلية والتنفّسية والمناعيّة للأذى، مع ما يترتّب على ذلك من عواقب تمتدّ طول العمر.
– يؤثر سلبًا في النمو الإدراكي للطفل وضعف مستوى التحصيل الدراسي.
– سوء تكيّف الطفل وظهور سلوكات تنطوي على أخطار صحية؛ فغالبًا ما يتّجه الأطفال المعرّضون للعنف إلى التدخين، وإساءة استعمال الكحول والمخدرات، والانخراط في سلوك جنسي شديد الخطورة. وترتفع لديهم معدلات القلق والاكتئاب والمشكلات الصحية النفسية الأخرى والانتحار.
– من المرجّح أن يتسرّب الأطفال الذين تعرضوا للعنف من المدارس، وأن يواجهوا صعوبات في إيجاد فرص عمل والحفاظ عليها، وأن يتعرّضوا لمخاطر متصاعدة بالوقوع ضحايا للإيذاء و/أو ارتكاب عنف شخصي وموجّه للذات لاحقًا، وبذلك يمكن أن يؤثّر العنف ضد الأطفال على الجيل التالي[16].
5- العوامل المهيأة لوقوع العنف:
العنف ضد الأطفال مشكلة متعددة الجوانب، ترجع إلى أسباب متعددة على مستويات الفرد والعلاقات المقرّبة والجماعات المحلية والمجتمع. وتتمثّل العوامل المهيأة للعنف في المستويات التالية:
– مستوى الفرد: الجوانب البيولوجية والشخصية، مثل الجنس والعمر، تدنّي مستويات التعليم، انخفاض الدخل، الإصابة بإعاقة أو بمشكلات صحية نفسية، ظهور المثليات أو المثليين أو مزدوجي الميل الجنسي أو مغايري الهوية الجنسانية.
– مستوى علاقات القرابة: انعدام الأواصر العاطفية بين الأطفال والأبوَين أو مقدّمي الرعاية، سوء الممارسات التربوية، اختلال الوظائف الأُسَريّة والانفصال، الاطّلاع على العنف بين الأبوين أو مقدّمي الرعاية، الزواج المبكّر أو القسري.
– مستوى الجماعات المحلية: الفقر، والكثافة السكانية المرتفعة.[17]
– على مستوى المجتمع: قيم اجتماعية وجنسانية، تهيئ مناخًا يصبح فيه العنف أمرًا عاديًا، سياسات صحية واقتصادية وتعليمية واجتماعية تحافظ على أوجه التفاوت الاقتصادي والجنساني والاجتماعي، غياب أو عدم كفاية الحماية الاجتماعية، الأوضاع اللاحقة للنزاعات أو الكوارث الطبيعية، سياقات تتسم بضعف الحوكمة وسوء إنفاذ القانون.
6- مواجهة العنف الموجه نحو الطفل ودور التربية:
تقتضي مواجهة العنف الموجه نحو الطفل مدخلًا نظاميًا يأخذ جميع عناصر منظومة إساءة المعاملة/ العنف بغرض تأسيس البيئة الآمنة، بأبعادها القانونية والمادية والإدارية والامنية. وإن تحقيق أهداف التنمية المستدامة الواردة في خطة الأمم المتحدة بحلول عام 2030 سيساعد في الحد من خطر العنف في حياة الأطفال، ويتيح استجابات فعالة للضحايا منهم. ولكن يجب علينا أيضًا أن نعترف بأننا لن نحرز التقدم في خطة عام 2030 ككل، إلا إذا عالجنا الغايات الواردة في أهداف التنمية المستدامة المتعلقة بالعنف ضد الأطفال معالجة كافية.
إدراج الغاية 16-2 من أهداف التنمية المستدامة: (إنهاء إساءة معاملة الأطفال واستغلالهم والاتجار بهم وتعذيبهم وسائر أشكال العنف المرتكب ضدهم) في الخطة، بعنوان: كرامة الأطفال وحقّهم في العيش دون عنف أو خوف أولوية من أولويات خطة التنمية الدولية.
وتم وضع سبع استراتيجيات لبلوغ الغاية المرجوة، تتناول: إنفاذ القوانين التي تحظر استخدام العنف وحظر السلوك العنيف بقوة القانون، وتغيير منظومة القيم التي تتغاضى عن العنف الموجه للطفل، وبخاصة الانتهاك الجنسي للفتيات أو السلوك العنيف بين الفتيان، ضبط الأمن في البيئات الخطرة. تدريب الوالدين وبخاصة الشباب منهم والذين أنجبوا لأول مرة، دعم دخول الفئات الفقيرة من خلال تمكينهم عبر مشروعات صغيرة ومتناهية الصغر، وتدريبهم على التخطيط والإنتاج والتسويق، والتركيز على خدمات الاستجابة (ضمان تمكين الأطفال المعرّضين للعنف من الحصول على رعاية طارئة فعالة وتلقّي دعم نفسي ملائم). وقد أكّدت الاستراتيجية الأخيرة مسألة تنمية المهارات التعليمية والحياتية، وضمان التحاق الأطفال بالمدارس وتوفير التدريب لتنمية المهارات الحياتية والاجتماعي.
لا شك أن التربية بأشكالها المتعددة تُعدُّ أحد أهم استراتيجيات دعم مكونات البيئة الآمنة للطفل، وفي مقدمها تمكين الطفل نفسه. فعلى عاتق التربية بأنماطها: النظامية، غير النظامية، اللانظامية، وميادينها المختلفة: الوجدانية والاجتماعية- النفسية، والسلوكية.. تقع مسؤولية تزويد الناس، أفرادًا وجماعات، بالمعارف الضرورية عن مشكلة العنف: مصادره وأشكاله وآثاره، بغية تمكينهم من مهارات التشخيص والتصنيف والتعامل مع الظاهرة، وغرس الاتجاهات والقيم الرافضة للعنف[18].
وللتربية مداخل عديدة، يمكن من خلالها تحقيق جزء مهم من غايات التنمية المستدامة الموجهة بالحقوق نذكر من المداخل التربوية:
1- إن إدماج حقوق الطفل في المناهج التعليمية يهدف إلى تنمية الشخصية الإنسانية، وازدهارها بأبعادها الوجدانية والفكرية والاجتماعية، وتجذير إحساسها بالكرامة والحرية والمساواة والعدل الاجتماعي والممارسة الديمقراطية؛ فالتربية على حقوق الطفل هي”جهد تربوي موجه للأفراد والجماعات، لإكسابهم المعارف والقيم والاتجاهات والمهارات اللازمة لتمكينهم من المشاركة الفعالة في عمليات التنمية الموجهة بالحقوق، وتوفر التقدم والعدالة والإنصاف للأجيال الحاضرة والآتية”[19].
إن التربية على حقوق الإنسان وحقوق الطفل مهمة للأطفال، لأن ذلك حق لهم؛ فالمادة 42 من اتفاقية حقوق الطفل تنصّ على أن للأطفال الحق في معرفة حقوقهم. وعلى عاتق الراشدين تقع مسؤولية ضمان تعريف الأطفال بحقوقهم وتمكينهم من ممارستها، وإن معرفة الطفل لحقوقه تعدّ الخطوة الأولى لزيادة احترام حقوق الإنسان، فضلًا عن تشجيع الأطفال على تنمية احترام الذات والمشاركة الفاعلة، فالأطفال الواعون لحقوقهم يدركون أهميتهم كبشر، كما يدركون أن ما يعيشونه ويفكرون فيه ويشعرون به أمرٌ له قيمة، وأن بوسعهم أن يسهموا إيجابيًا في حياة المجموعة والأسرة والمدرسة والمجتمع. الأمر الذي يُسهم في تعزيز السلوك الإيجابي لدى الأطفال، فالتربية على الحقوق إحدى طرق التشجيع على السلوك الإيجابي الأكثر فعالية، لأنها تنطوي على تفكير نقدي، وتعزيز إحساس الطفل بالمسؤولية. إنها تربية تشجع الأطفال على التفكير في كيفية التفاعل مع الآخرين، وكيفية تغيير سلوكهم، بحيث يعكس قيم حقوق الإنسان على نحو أفضل. والنتيجة أنهم لا يصبحون أكثر وعيًا بأهمية الاحترام والتعاون والإشراك فحسب، بل يكونون أكثر استعدادًا لإدماج هذه القيم في الممارسة العملية في حياتهم اليومية.
2- من خلال إعادة النظر بالعلاقات الاجتماعية-التربوية، بين عناصر العملية التربوية العاملة في المؤسسات التعليمية، وبخاصة بين المعلمين والطلاب.
ومن أنماط العلاقة التربوية المعززة لقيم حقوق الطفل وحمايته، نركز على العلاقة الديمقراطية أو التشاركية، لتكون مضمونًا للعلاقات الاجتماعية /التربوية في المدرسة، إنها علاقة قائمة على الديمقراطية من خلال: احترام قيمة الفرد وذاته، كغاية في حد ذاتها، فضلًا عن بناء قدرة الأفراد على تنظيم أمور حياتهم وتوجيهها نحو تحقيق المصالح المشتركة لكل من الأفراد والمجتمع.
3- من خلال ممارسة الأنشطة الداعمة لقيم التعايش وقبول الآخر والتعاون ونبذ العنف
يمكن للمدرسة أن توجه بعضًا من أهدافها التربوية نحو الأنشطة الصفية واللاصفية الهادفة إلى تزويد التلاميذ بالمعلومات والمهارات والقيم الداعمة لحقوق الطفل في النمو والحماية. ونذكر منها بعض الأمثلة التي تهدف إلى تعليم الأطفال وتمكينهم من مهارات التسامح وحل النزاعات بطرق سلمية واحترام الآخر المختلف… إلخ.
يمكن للمعلمين أن يبحثوا في شبكة الإنترنيت، وسوف يجدون معلومات وتمارين متنوعة يختارون منها ما هو مناسب لطلابهم [20]، وأن يضعوا قائمة بالأنشطة المناسبة للأطفال التي تتلاءم مع احتياجاتهم، وللقيام بذلك، ينبغي أن يدرس الجوانب التالية المتعلقة بنمو الأطفال:
* النمو الجسدي: ماذا يستطيع الأطفال أن يفعلوا؟
* النمو المعرفي: ماذا يستطيعون أن يفهموا؟
* النمو الاجتماعي: ما هو المهم اجتماعيًا بالنسبة إليهم؟[21]
4- تطوير البيئة التعليمية المادية[22]:تقتضي متطلبات التربية الحديثة تطويرًا للبيئة التعليمية عمومًا، والبناء المدرسي خصوصًا. وقد اتجه تطوير البيئة التعليمية المادية نحو تلبية متطلبات عدة، منها:
1-الاهتمام بالحاجات النفسية للمتعلمين، عند القيام بتصميم وإنشاء البيئة التعليمية/ المدرسية. ومن تلك الحاجات، الحاجة إلى ملائمة المبنى المدرسي لأعمار الطلاب وخصائصهم الحركية؛ والحاجة إلى تصميم مبنى مدرسي ينمي القدرات العقلية ويثير النفس، باقتراح توفير عناصر وحالات تعطي الطالب الشعور بالنجاح والإنجاز والاعتراف بالذات؛ والحاجة إلى تصميم يشجع الطلاب على التعلم العفوي.
2- تنويع الفضاءات المدرسية وفق تنوع الأنشطة التربوية.
ريمون المعلولي _ مركز حرمون للدراسات
[1] قانون العقوبات العام السوري لا يُولي معاملة خاصة للأطفال، في حال تعرّضهم للضرب أو التعنيف من ذويهم أو أي شخص آخر، فضلًا عن كونه عقابيًا وليس وقائيًا، أي لا يتدخل إلا بعد وقوع الجريمة (راجع المواد: 540-541-542 من القانون المذكور).
[2] ريمون المعلولي، خصائص الأسرة الريفية المهاجرة والمقيمة في عشوائيات دمشق وضواحيها، بحث منشور بعنوان “كفاية التربية- دراسة سوسيوتربوية في تجمعات دمشق وضواحيها (عمان: دار الإعصار، 2015).
[3] تحدد اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 138 ثلاثة أعمار دنيا للتشغيل: 18 سنة للالتحاق بالأعمال الخطرة؛ 15 سنة للاستخدام في أعمال غير خطرة؛ 13 سنة للأعمال التي لا تعرقل التعليم.
[4] ريمون المعلولي، جودة البيئة المدرسية وعلاقتها بالأنشطة البيئية، دراسة مسحية في مدارس التعليم الأساسي، مدينة دمشق، 2003، بحث منشور في مجلة جامعة دمشق للعلوم التربوية والنفسية، عدد 1-2. دمشق 2010.
[5] مطاع بركات، العنف الموجه ضدّ الطفل، دراسة مسحية في مدارس التعليم الأساسي في سورية، 2004.
[6] إيمان عز، العنف ضد الأطفال، دراسة ميدانية في مؤسسات الأحداث/ الجانحون، 2004
[7] يونيسيف، نظام حماية الطفل في المدرسة، دمشق 2009.
[8] يونيسيف، وضع الأطفال في العالم، 2005.
[9] راجع دراسات المعلولي المتصلة بتعليم الاطفال السوريين، مثل: التعليم في ظروف استثنائية، حالة الشمال السوري:
[10] كثرت حوادث التنمر على الأطفال السوريين اللاجئين، في بلدان مستضيفة، مثل لبنان وتركيا.
[11] راجع المعلولي، “أطفال من سورية، حرمان من النسب والجنسية، تهميش واغتراب”، مجلة رواق ميسلون، العدد الرابع. 2021
[12] راجع الشبكة السورية لحقوق الإنسان، قُتل ما يزيد على 28500 طفل، منذ آذار 2011 حتى آذار 2019، وقضى 177 طفلًا تحت التعذيب، واعتقل 4721 آخرون، وتعرض 2116 طفلًا للإخفاء القسري على أيدي جميع الأطراف في الصراع السوري. منظمة الصحة العالمية، إساءة معاملة الطفل، حزيران 2020
[13] المبادرة العالمية لإنهاء جميع أشكال العقوبة البدنية التي تمارس ضد الأطفال، الموجز العالمي عن الوضع القانوني للعقوبة البدنية للأطفال، حزيران 2006.
[14] منظمة الصحة العالمية، 2005
[15] المبادرة العالمية لإنهاء جميع أشكال العقوبة التي تمارس ضد الأطفال، حزيران 2006.
[16] منظمة الصحة العالمية، حزيران 2019
[17] منظمة الصحة العالمية، 2019، مرجع سابق.
[18] ريمون المعلولي، التربية من أجل حماية الطفولة، الهيئة السورية لشؤون الأسرة، دليل مؤتمر حماية الطفل في مناهج التعليم العالي، تشرين الأول/ أكتوبر 2006.
[19] ريمون المعلولي، حقوق الطفل والتربية عليها، منظور التنمية المستدامة، دار الإعصار العلمي، عمان/ الأردن 2021
[20] راجع الرابط الآتي: www.equitas.org
[21] راجع المعلولي، حقوق الطفل والتربية عليها، مرجع سابق.
[22] يُطلق على المدرسة التي شهدت تطويرًا في بيئتها التعليمية، المادية والاجتماعية “المدرسة صديقة الطفل”.