تروى محطات من التاريخ عبر حكايات وصور وفيديوات من مأساة الطفولة السورية… هنا محاولة لرسم مسار امتهان وتحطيم الطفولة السورية في العقد الأخير.
مجدداً، تُكشفُ حكاية، أو تنتشرُ صورة، أو يُصوّر فيديو عن طفل أو طفلة من سوريا يظهر فظاعة من نوع الضرب او الاغتصاب او التعذيب. في كل صورة أو حكاية هناك ما يرمز أو يؤشر إلى التجربة التي يعيشها الشعب السوري بكامله مكثفة عبر الأطفال. ومجدداً تروى محطات من التاريخ عبر حكايات وصور وفيديوات من مأساة الطفولة السورية.
هنا محاولة لرسم مسار امتهان وتحطيم الطفولة السورية في العقد الأخير.
الطفولة ترسم التغيير
في شباط/ فبراير 2011، انتشرت حكاية من درعا تقول إن أطفالاً قلدوا ما رأوه على الشاشات من أطفال تونس، رسموا على حائط مدرستهم ما يرمز إلى الحرية، وكتبوا عبارات تطالب بتغيير النظام. وبعدها، طارت حكايتهم لتغيّر تاريخ البلاد، إذ اعتقل الأمن (بحسب ناشطين معارضين) 15 طفلاً إثر كتابتهم شعارات تنادي بالحرية وتطالب باسقاط النظام الحاكم فجرى ضربهم وقلع أظافرهم.
رفض المسؤولون الأمنيون التواصل مع أهالي درعا بخصوص اعتقال الأطفال. تحرك التاريخ في سوريا مع رسومات أطفال عن الحرية، لكن بأي اتجاه؟ فبسبب طريقة تعامل النظام الحاكم مع هذه الحكاية، ما أن مرت 4 سنوات، أي عام 2015، حتى جاء في تقرير منظمة “اليونيسيف” و”منظمة حماية الطفل”، بعنوان “أيادٍ صغيرة وعبء ثقيل” أن 4 من كل 5 أطفال سوريين يعانون الفقر.
الطفولة تدشن مرحلة التعذيب
بعد أقل من شهرين على حكاية أطفال درعا، ظهرت إلى العلن تفاصيل حكاية جديدة، صور جثة الطفل (حمزة الخطيب، 13 سنة)، الذي تعرض للتعذيب حتى الموت. تروي الحكاية أنه اعتقل عند حاجز للأمن السوري قرب مساكن صيدا في حوران في نيسان/ أبريل 2011. وبعد مدة، سُلِّم جثمانه إلى أهله، وبدت على جسمه آثار التعذيب والرصاص الذي تعرض له، إذ تلقى رصاصة في ذراعه اليمنى وأخرى في ذراعه اليسرى وثالثة في صدره وكسرت رقبته ومثل بجثته وقُطع عضوه التناسلي، بحسب الرواة. انتفض كثيرون، وانطلقت صفحات التواصل الاجتماعية تردد “كلنا حمزة الخطيب”، بالإشارة إلى مرحلة التعذيب والتنكيل بأجساد المعتقلين والمعتقلات في سوريا. وقالت هيلاري كلينتون إن قصة الطفل “نقطة تحول في الانتفاضة السورية، وهو يرمز إلى الكثير من السوريين، وإلى فقدان الأمل التام من أي جهد في التواصل مع الحكومة السورية التي لا تنصت لشعبها”، لكن شيئاً لم يحصل بخصوص التعذيب. ففي آب/ أغسطس 2015، وثقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” ما يقارب 80 حالة وفاة تحت التعذيب، ارتكبتها الفصائل المتحاربة على الجغرافية السورية.
الطفولة ضحية الحرب الإعلامية
تعددت الروايات حول حكاية الطفلة زينب الحصني. قال الإعلام المعارض إن الطفلة اعتقلتها قوات الأمن السورية، بسبب مشاركة أخيها محمد في التظاهرات، وإنها فارقت الحياة تحت التعذيب، وإن والدتها تسلمت جثتها، وظهرت على جثتها آثار تعذيب وإصابات عيارات نارية. لتكون هذه حكاية أول معتقلة أنثى تموت تحت التعذيب في تلك الفترة. لكن، بعد أيام، بث التلفزيون الرسمي السوري لقاءً مع الطفلة زينب، تعلن فيه أنها هاربة من منزل عائلتها ولجأت إلى الأمن طوعاً. عام 2013، ظهرت زينب في الأردن تخبر بأنها اعتقلت فعلاً، وأنها أجبرت على تصوير المقابلة التلفزيونية، ولُقنت أقوالها. إنها طفلة تأرجحت حكايتها بين الحياة والموت، واستغلتها جهات إعلامية متحاربة. وهكذا في عصر الاتفاقية العالمية لحقوق الطفل 1990، والتي صادقت عليها الجمهورية العربية السورية، تلاعبت أطراف سورية عدة بمصير طفلة، عرفت الحياة والموت وهي لم تتجاوز الثامنة عشرة.
أطفال بوعي طائفي
منذ انطلاق التظاهرات عام 2011، نبهت المنظمات الإنسانية العاملة في مجال حقوق الأطفال، النشطاء والمتظاهرين السوريين من خطورة مشاركة الأطفال في المظاهرات وحمل لافتات بشعارات سياسية لا يمكن أن يمتلك الأطفال وعياً بمضامينها. برر أهالي الأحياء والحارات المنتفضة ذلك، أن الحي بأكمله، بعائلاته وأطفاله، يشارك في تنظيم التظاهرة، من تعليق الأعلام، إلى الغناء، إلى تنظيف الساحات: “إنه جزء من النشاط الجماعي للحي”، يقول أحد الآباء.
لكن الأمر ما لبث أن تحول إلى ظهور أطفال يحلمون لافتات تحتوي شعارات طائفية. حاول الإعلام المعارض وقتذاك تدارك الأمر وحجب ما أمكنه من صور الأطفال يحملون شعارات طائفية. في واحدة من تلك الصور، يرفع طفل في الثالثة العبارة التالية: “بكل فخر نعم نحن مسلمون سنة ولهذا السبب أطفال سورية تباد وتحرق وتذبح”. كيف يدرك طفل أو طفلة في الثالثة معنى “السنة” التي تتطلب فهماً للتاريخ، وكيف تدرك الطفولة أن الصراع طائفي؟ وما هي الطائفية أساساً؟ ثم انتشرت فيديوات لطفلة في حي بابا عمرو تخطب في تظاهرة، وأمام الكاميرا والجماهير، حيّت الطفلة الشيخ العرعور أحد أشد خطباء الطائفية تحريضاً وتطرفاً.
طفل يغني الذبح وآخر يتوعد الدمار
عام 2013، انتشر في الميديا واحد من أكثر الفيديوات إنذاراً بخطر وضع الطفولة في سوريا خلال السنوات الماضية. يظهر فيه طفل من مدينة بنش في إدلب، محمولاً على أكتاف عناصر من تنظيم “النصرة”. يغني الطفل بصوت صادح، متوّعداً القرى الشيعية المجاورة بالذبح، مؤدياً بذراعه أثناء الغناء حركة الجز بالسكين:
“شرطة نصيرية… صبراً يا علوية
بالذبح جيناكم… بلا إتفاقية
قالوا لي إرهابي… قلت الشرف ليا”
هكذا يفتخر الطفل بصورة الإرهابي في الأغنية، ومن ثم يوجه التحية إلى مؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، ويتبنى في أغنيته جريمة تفجيرات برج التجارة العالمي في نيويورك 11 في أيلول/ سبتمبر 2001، والتي راح ضحيتها حوالى 3000 شخص:
” قائدنا بن لادن… يا مرهب أميركا
دمرنا أميركا… بطيارة مدنية
برج التجارة غدا… كومة ترابية
شرطة نصيرية… صبراً يا علوية”.
لم يمض شهران على هذه الأغنية، حتى ظهرت شريط فيديو آخر لأغنية طفل آخر، يقال إنه مصور في منطقة المزة 86 في العاصمة دمشق. الفيديو مصور في غرفة لا يظهر منها إلا الطفل، وأصوات من خلفه تردد “فرقة رابعة”، بما يبدو أنها الفرقة الرابعة من الجيش السوري. يتوعد الطفل للثورة، وفي عبارات الأغنية تهديدات بأبشع أفعال التعدي الجنسي، الاغتصاب، وبدمار المناطق السورية المتمردة بأسمائها الواحدة تلو الأخرى على اللحن ذاته، مثل داريا، قدسيا، وزملكا.
في الحادثتين المروعتين استعملت الطفولة لتأدية أغانٍ تشيد بمفاهيم مثل: الذبح، القتل، التفجير، الاعتداء الجنسي، الكسح ومسح البشر، مع تبني عمليات إرهابية عالمية. كانت تلك إشارة أيضاً تأتي من الطفولة عن انتقال الصراع السوري إلى درجة أشد من الطائفية والعنف.
الطفولة المسلحة
حتى نهاية عام 2016 فقط، قدرت الباحثة كيم سينغوبتا أن عدد الأطفال الذين تم تجنيدهم في صفوف تنظيم “داعش” بلغ حوالى 50 ألف طفل. في بحثه بعنوان “الأطفال في ظلام تنظيم الدولة الإسلامية بين التربية الجهادية والتجنيد”، يكتب الباحث وسيم الشرقي: “لقد اعتبر الأطفال في الأماكن التي سيطر عليها هذا التنظيم من الموارد الأساسية التي تمكنه من الاستمرار في القتال”. أنشأ “داعش” منظمة خاصة لتجنيد الأطفال وتدريبهم على السلاح، وهي منظمة أشبال الخلافة. فتكاثرت الصور والفيديوات التي تظهر معسكرات تدريب الأطفال على القتال ومختلف أنواع الأسلحة. وأصبحت عيوننا معتادة على رؤية الطفل المسلح كجزء من ثقافتنا الجمعية.
يعرض الفيلم الوثائقي “الجيل الخامس” لقاءً مع الطفل حسن (16 سنة)، الذي حُرر من أيدي التنظيم، بعدما تبع مناهج تدريب أشبال الخلافة. يروي الطفل عن تقنيات “داعش” في إرسال الأطفال أولاً إلى جبهات القتال. يروي أيضاً تجربة القتل، اللعب بالجثث كما لو أنها لعب أطفال، وهو في حال ضياع في توصيف ما حدث معه، أكان هو قاتلاً أم مقاتلاً؟ وفي نهاية المقابلة المصورة، نكتشف أن هذا الطفل ما زال يشعر بالحنين إلى الأغاني الجهادية التي كان يسمعها في ظل حكم التنظيم، ويترجى مخرج الفيلم ألا يضع أياً منها لأنها تبث فيه حنيناً إلى القتال والسلاح.
طفولة النزوح والهجرة
تتعدد الصور والفيديوات الخاصة بالطفولة والتي تدشن ظاهرة النزوح والهجرة التي عاشها المجتمع السوري. الأولى، صدرت عن وكالة الأنباء “رويترز”، تصور طفلاً نائماً في حقيبة سفر، يغفو داخلها وهو محمول على طول الطريق. الثانية كانت في فيديو في أوروبا في أيلول 2015. كانت مجموعات السوريين اللاجئين إلى أوروبا تعبر الحدود الهنغارية، عرقلت صحافية هنغارية أباً سورياً (أسامة الغضب) يحمل طفله بين ذراعيه ويهرب من الشرطة. ومهما كان المشهد غير مفهوم أو يفتقد إلى الوضوح، إلا أن العين ترى طفلاً جديداً يقع أرضاً، بركلة من مصورة تعمل لتلفزيون حزب “جوبيك” اليميني المناهض لقوانين الهجرة في هنغاريا. إنها ركلة اليمين الأوروبي للطفولة السورية اللاجئة. في ذلك الحين، أعلنت الأمم المتحدة أن أكثر من أربعة ملايين سوري، أي نحو سدس عدد السكان، فروا من الصراع الدائر في بلادهم إلى الخارج.
قبل ذلك، في صباح 2 أيلول 2015، استفاق العالم على فيديو مصور يوثق غرق الطفل السوري إيلان الكردي، منقلباً على وجهه منتفخ الجثة من كمية المياه التي ابتلعها. كانت عائلة الطفل تحاول الهجرة عبر البحر بين تركيا واليونان. وعلى مدى ساعة من الزمن، اللاجئون السوريون في القارب يحاولون ترويض الأمواج العاتية للحفاظ على حياتهم والوصول إلى جزيرة كوس اليونانية. انتهت تلك المغامرة بشكل مأساوي حين انزلق الطفل من يدي والده، وبعد ساعات كان منكباً على بطنه فاقداً الروح على شاطئ شبه جزيرة بوضروم التركية. توفي 12 لاجئاً سورياً في ذلك القارب غرقاً في البحر، وكان منهم إيلان (3 سنوات)، وأخوه غالب (5 سنوات).
انتشرت الصورة كأيقونة لضحايا الهجرة السورية المميتة عبر البحر، بكت عليها كل من رئيسة وزراء السويد، ورجب طيب أردوغان التركي، وأيقظت السياسية الأوروبية من غفوتها بأنها غير قادرة على التغيير، ونعت دار الإفتاء المصرية الطفل السوري على صفحتها الرسمية في “فايسبوك”، ونشرت صورته وكتبت أسفلها “اللهم ارفع الغمة عن الأمة”. في عدد أيلول من مجلة “شارلي إيبدو” الساخرة، بعنوان: “أهلاً وسهلاً باللاجئين”، وظف محررو الجريدة صورة الطفل الغريق إيلان في كاريكاتور ينتقد سياسية الاتحاد الأوربي حيال اللاجئين، وينتقد أوروبا المسيحية، التي لا تأبه لأطفال جيرانها المسلمين.
أما الكاتبة والفيلسوفة الفرنسية ماري خوسيه موندزين، فقالت عن صورة إيلان: “سواء أصُنعت الصورة أم لا، فإنها تخبرنا عن حال اجتماعي واقتصادي لجماعة بشرية نعرفها، تشاركنا هذا البحر، وعلى الصورة أن تدفع للعمل على مساعدة الناجين من رحلة اللجوء، والانضمام إلى الحملات المطالبة بحسن استقبالهم”. لكن أبواب اللجوء السوري إلى أوروبا منذ ذلك العام أغلقت باتفاق أوروبي- تركي، مقابل تعويضات مالية يقدمها الاتحاد الأوروبي إلى الحكومة التركية.
الطفولة في الاغتصاب الجنسي
راهناً، ظهر فيديو جديد يضيف فصلاً جديداً من مأساة الطفولة السورية، هذه المرة من لبنان. ربما لم يشهد العالم العربي سابقاً فيديو يوثق لعملية اغتصاب. لقد صوره أحد مغتصبي الطفل السوري الثلاثة، وهم يتباهون بذلك، ونشره المغتصب بسبب خلاف نشب بينه وبين المعتديين الآخرَين. وقالت والدة الطفل الذي يعمل في معصرة في منطقة الباقع اللبنانية، إن جرائم الاعتداء الجنسي تمارس على ابنها منذ سنتين.
يأخذنا الفضول أولاً إلى الفيديو، لمعرفة كيف تصور الكاميرا عملية اغتصاب واقعية، وكيف تنتشر في المجتمع جريمة مصورة على هذا القدر من الإباحية، والانحراف الجنسي، والخلل الأخلاقي؟ كيف سيؤثر فيديو اغتصاب طفل في الثقافة البصرية العامة؟ وهل ستتالى فيديوات من هذا النوع في المستقبل مثلما حدث مع الحكايات والصور والأفلام السابقة؟ ومن ثم يتذكر المشاهد أن الضحية طفل سوري، يتعرض للضرب والاعتداء الجنسي ليضيف إلى حكايات الطفولة السورية حكاية أخرى، صورة أخرى، فيديو آخر قد يغير ثقافة المنطقة العربية كاملة، في تقبل هذا النوع من الأحداث، الجرائم، والبصريات.
منذ سنوات تحتل سوريا قائمة الدول التي تعيش أعلى نسبة تسرب أطفال من التعليم في العالم.
في حزيران/ يونيو 2020، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف”، أن 6 ملايين طفل سوري لا يتلقون التعليم، ومنذ سنوات تحتل سوريا قائمة الدول التي تعيش أعلى نسبة تسرب أطفال من التعليم في العالم. وأعلنت حاجتها إلى نحو 650 مليون دولار، مساعدات لمواجهة هذه الظاهرة، وإلا فإن أحداً لا يتخيل آثار ترك أجيال من الأطفال بلا تعليم في المستقبل، وفي منطقة عربية تعد الأغنى في العالم بالثروات والنفط. وبينما الاستثمارات العربية تشحن اقتصادات الدول الكبرى بزيادة الثراء، تترجى المنظمات المهتمة بالطفولة في المنطقة مثل “اليونيسيف” و”الأونروا” مساعدات لإنقاذ الأطفال.
يقول المخرج الفرنسي جان لوك غودار: “لا يمكن تغيير ما هو في صورة… ربما التغيير هو ما يحدث بين صورة وأخرى”، ونحن بانتظار الصورة التالية من مأساة طفولة المنطقة.
لبنان: عن الطفل السوري الذي اغتُصب بصمت لسنتين
لم يخطر لحظة في بال فاطمة أن يكون هؤلاء الشبان، الذين تأتمنهم على ابنها، هم منتهكو جسده، بخاصة أن صلة قرابة تربط بينها وبينهم. تقول، “كنت أشعر بالاطمئنان وهو معهم، كثيرةً هي الأيام التي طلب فيها محمد ألا يذهب إلى العمل…
الكاتب: علاء رشيدي/ Daraj