كتب الصحفي البريطاني روبرت فيسك، الذي يعمل مراسلًا لصحيفة “الإندبندنت” البريطانية، مقالًا بعنوان: “ربما تمّ نسيانها لكنّ الحرب السورية لم تنتهِ بعد”، تحدث فيه عن علاقات الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا في سوريا، وتحديدًا في منطقة شرقي وشمال شرقي سوريا.
الصراع الأمريكي- الروسي حيال الملف السوري ليس وليد هذه المرحلة، بل يمكن القول، إن بيان “جنيف1” أظهر قراءتين مختلفتين لمحتوى هذا البيان، فقد قالت هيلاري كلينتون بعد صدور بيان “جنيف1” المشهور: “إننا اتفقنا على رحيل الأسد من خلال تشكيل هيئة حكم انتقالية، ستأخذ صلاحيات الرئيس والحكومة والأمن والجيش”.
لكنّ وزير الخارجية الروسي نفى، حينها، أنه تم الاتفاق على مصير الأسد، وهو ما يعتبر دلالة على اختلاف عميق بين الطرفين.
الصراع الأمريكي- الروسي انتقل لاحقًا إلى جوهر القرار الدولي رقم 2254 الصادر بتاريخ 18 من كانون الأول 2015، وهذا واضح في عدم تنفيذ هذا القرار، حيث عمل الروس على تفريغه من مضمونه الحقيقي، واستبدال مساري “أستانة” و”سوتشي” به، هذان المساران أراد الروس تحقيق أجندتهم من خلالهما، بما يخدم بقاء أوراق الحل ومستقبل الحياة السياسية والاقتصادية السورية في مربع مصالحهم الخاصة.
الصراع الروسي- الأمريكي لم يبقَ في هذا الحيز الدبلوماسي أو السياسي، فحضور هذا الصراع في حلقاته السورية المختلفة واضح وجلي، حيث يبقى التنازع بين الطرفين غير معلن في أغلب الأوقات، وهو ما يجعل إمكانية الحل السياسي مجرد “بروباغندا” إعلامية لا تنمي إلى عالم الوقائع الحقيقية.
وفق هذه الأحوال، ينبغي قراءة ما يحدث في جنيف من جولات متعددة على أنها مفاوضات لم تبرح حيّز الأمنيات غير الواقعية، فلا تزال هناك هوّة واسعة بين طرفي الصراع السوري (قوى الثورة والمعارضة، والنظام الاستبدادي)، هذه الهوّة كانت في بدايات الثورة تعبّر عن درجات التناقض بينهما، ولكن مع توسع التدخل الإقليمي والدولي في الصراع السوري، تراجعت قدرة التحكم بالتناقض بين الطرفين، لتنتقل إلى مستوى تناقض جديد بين طرفين دوليين منخرطين بهذا الصراع، ونقصد الطرف الأمريكي والطرف الروسي، وكذلك مستوى التناقض الأقل قيمة في هذا الصراع، ونقصد قوى التدخل الإقليمية فيه، مثل التدخل الإسرائيلي والإيراني والتركي.
ولكن، لماذا لم يصل الصراع الأمريكي- الروسي حول سوريا إلى مربعه الأخير، الذي يبدأ معه تفاهم ما بين هاتين القوتين؟
الإجابة عن هذا السؤال تحيل إلى البحث عن مقدمات تدخلهما في هذا الصراع، وأهدافهما منه، وبالتالي النتائج التي يمكن تحصيلها من قبلهما، وفق تغيرات ميزان القوى المؤقت، أو الاستراتيجي بين قواهما المنخرطة فيه.
الروس يريدون من الصراع السوري أن يكون حصان طروادة في اقتحام صراعات أخرى لهم مع الغرب عمومًا، ومع الأمريكيين خصوصًا، فهم يدركون بعمق قيمة وأهمية الموقع الجيو استراتيجي السوري، ويريدون توظيف هذا الموقع في حساباتهم السياسية المتعلقة بصراعات حوض البحر الأبيض المتوسط، وحساباتهم في صراعهم مع أوروبا الخائفة من توسع نفوذهم في هذه المنطقة الحيوية من العالم.
الأمريكيون يمارسون سياسة اللعب بتناقضات مكونات بنية الصراع السوري بصورة تبدو أحيانًا وكأنها سياسة غير مهتمة بالوضع السوري، وهذا ليس جوهر سياستهم الحقيقي، هذا الجوهر يمكن تتبع حقيقته في التحالف بينهم وبين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) من جهة وتحالفهم الأكبر والأعمق مع الدولة التركية عدو حليفتهم “قسد” التي لا يزال حزب “PKK” حاضرًا بقوة في رسم توجهاتها ودورها.
الأمريكيون الذين وضعوا قوتهم في منع النظام السوري وحلفه من الاقتراب من منابع النفط والغاز، في محافظات الرقة ودير الزور والحسكة الواقعة في شرقي وشمال شرقي سوريا، والتي تسمى اختصارًا منطقة “الجزيرة والفرات”، وفق التسمية السورية لها، لم يفعلوا ذلك لغاية وضع اليد على هذه الثروة، بقدر استخدامها كورقة ضغط سياسي واقتصادي على النظام وحلفه الروسي- الإيراني، منعًا لأي احتمال لاستخدام هذه الثروة في تقوية النظام، والسماح له بإعادة الإعمار، من خارج تنفيذ القرار الدولي 2254.
الأمريكيون أوفدوا جيمس جيفري إلى أنقرة، وهو صرح بعد وصوله إلى أنقرة، في 26 من آب الحالي، قادمًا من جنيف أن “هناك تطورات مثيرة فيما يتعلق بالملف السوري”، وأضاف أنه سيبحث مع المسؤولين الأتراك مسألة عودة النظام السوري إلى طاولة المفاوضات، والتعامل مع المجتمع الدولي، مؤكدًا على ضرورة انتهاء العمليات العسكرية في الأزمة السورية.
مجيء جيفري إلى تركيا ولقاء المسؤولين فيها، واستمرار التفاوض في جنيف، يوحي بأن شيئًا ما يُطبخ في الكواليس الأمريكية- الروسية، وتحديدًا بعد تصريحات روسية كشفت عن استعداد روسي لمباحثات جادة حول الملف السوري.
هذه الأمور المتعلقة بالصراع السوري، التي تجري في الكواليس، هل هي مؤشر على أن أنشطة العقوبات الأمريكية (قيصر)، وكذلك العقوبات الغربية، بدأت تضيّق الخناق بشدة على عنق النظام السوري وحلفه؟
وهل وصل الروس إلى مربع القناعة، بضرورة التفاهم مع الأمريكيين حول شكل الحل في سوريا؟ وهل هذا الحل يتزامن مع اقتراب موعد انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية، التي ستجري في 3 من تشرين الثاني المقبل؟
إن عدم ردم الهوّة بين الموقفين الأمريكي والروسي حول الصراع وحله في سوريا، سيبقي هذا الصراع قيد الاشتعال ومراكمة النتائج السلبية، التي تحصل بسببه، وهذا لن يضمن للطرفين الأمريكي والروسي استمرار قدرتهما على التحكم بآليات هذا الصراع في المستقبل، نتيجة لاحتمال حدوث متغيرات إقليمية أو دولية تضعف دورهما في هذا الشأن.
إن إصرار الولايات المتحدة على ممارسة مزيد من الضغوط السياسية والدبلوماسية على النظام السوري، وعلى حلفائه الروس والإيرانيين، يكشف عن حاجة أمريكية لحل سياسي في سوريا، سيما وأن ظهر الولايات المتحدة صار مكشوفًا بعد اتفاق “أبراهام” بين دولة الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل، وأن بوادر حلف معادٍ للسياسة الأمريكية في المنطقة قد بدأ يتشكل عبر إعلان روسي- تركي- إيراني برفض اتفاق “أبراهام”.
الأمريكيون لن يستطيعوا حمل بطيختين بيد واحدة، فهل يطيحوا ببطيخة الأسد باتفاق مع الروس والأتراك، يحفظ لهؤلاء مصالحهم، ويمنع استمرار النزيف السوري الذي طالت أيامه؟
أسامة آغي_ عنب بلدي