syria press_ أنباء سوريا
تعج الفضاءات الرقمية وغير الرقمية ب”الشتيمة الجنسية” الموجّهة بطبيعة الحال إلى النساء. لا تكاد تدخل إلى صفحة ناشطة أو سياسية أو صحافية حتى تصطدم بكمية الشتائم التي تدور غالباً في فلك واحد، “الجنس”.
“شرموطة”، “قحبة”، “عاهرة”، “عايبة”، وغيرها من الصفات والشتائم، التي تعني “الزانية” دينياً والمرفوضة اجتماعياً والمستباحة جسدياً وجنسياً، تتصدّر النقاش في السياسة أو الاقتصاد أو التنمية، حين تطرحه امرأة أو تشارك فيه.
وبذلك يتحوّل المنشور أو المقال أو الرأي المطروح، عاجلاً إلى مسلخ للعرض والشرف، ويتنافس رجال الأمة على من يستعرض قدراته الجنسية وفانتازماته في فتك الأعراض، تحت منشور أو تعليق عائد لسيّدة ما.في مكان آخر، لا طريقة أفضل لإهانة رجل كشتم أمه أو أخته أو زوجته… ترتبط كرامة الرجل العربي، وخصوصاً السوري، بالنساء اللواتي هنّ في موروثه القبليّ الذكوري، نساؤه، وأي حديث عن حياتهنّ الجنسية أو أجسادهنّ يعنيه شخصياً، على اعتبار أن أجساد نساء العائلة ملك ذكورها ومسؤوليتهم…
واستعراض العضو الذكري في هذه الشتائم، كفاتك، والنساء كمفتوك بهنّ، يترافق أيضاً مع إهانة الرجال عبر إعطائهنّ صفات النساء (لا سيما لناحية الميول والاتجاهات الجنسية)، ما يشير إلى هذا الفرق الكبير بين مكانة الرجل الاجتماعية وتلك الخاصة بالنساء، ليصبح تشبيه أحدهم بالنساء إهانةً وشتيمة.
ومن ذلك “بي…ك”، “ابن الماما”، أو مثلاً “يبكي كالنساء”، “يثرثر كالنساء”، “يطبخ أو يجلي الصحون كالنساء”، وإن كانت هذه التعابير لا تحمل شتيمة جنسية، إلا أنها تخفي وراءها مجلداً من محاولات التنميط وقمع النساء واعتبارهنّ مجرّد طبّاخات وباكيات وجاليات صحون.
الشتيمة كصورة عن المجتمعات
“يا بنت ال…كة امك ان…ت لجابتك”، فردت عليه “أنت أيضاً جئت إلى الدنيا بذات الطريقة التي ن..ك فيها أبوك أمك، يعني نحن الـ2 متساويان”.
إنه حوار قصير على حائط الناشطة النسوية فضيلة الشامي، وهو يشبه حوارات كثيرة تخوضها النساء في كل مكان.
تعلّق الشامي على ذلك قائلةً: “الرجل الذي يشتم رجلاً بقوله: والله ل…ك، يستخدم لغة الشتم تجاه الفعل الذي يقوم على المرأة، أي أنه يهينه، على اعتبار المرأة أقل منه، ومعاشرتها هو للتفريغ وليس للاستمتاع أو النشوة، لأن التفكير الجاهل يرى المرأة وعاءً، “ت…ك لتنجب أطفال”.
ولا يمكن فصل الشتيمة الجنسية عن المجتمع الذي يخرجها، فالشتيمة بأبعادها ومكوناتها وإيحاءاتها، تعبير عن المجتمع وناسه وقاعدته الفكرية.
فاعتبار الجنس مصدر إهانة للمرأة وضعف وذريعةً لإذلالها واعتبارها مستباحة وخاطئة وفق الشتائم الجنسية التي تملأ الحيطان الافتراضية وغير الافتراضية، ما هو إلا تعبير عن حال بيئات ومجتمعات ما زالت قاصرة عن استيعاب أن العلاقة الجسدية، ليست مجرّد عملية تفريغ واستمتاع لمصلحة الرجل، وعلى حساب المرأة وكرامتها.
وهي مجتمعات ما زالت تعتبر المرأة كائناً هامشياً، يتلقى الأوامر والتعليمات وكذلك يتلقى الجنس ولا يشارك فيه، وفي حال اتخذت قرارها في المشاركة هذه، فيعتبر الأمر معيباً، لأسباب دينية واجتماعية وثقافية. فليست جملة الفرزق وما خلفها من قذارة وتخلّف مرفوضة في كل المجتمعات، بل هي تعتبر شعاراً وقدوة، “إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فاذبحوها”.
والشتائم الجنسية لا تخص المجتمعات العربية فقط، وإنما تستخدم في المجتمعات الغربية ايضاً حاملةً ذات الدلالة.
رصاصة مجانية
الشتيمة الجنسية، تلك الرصاصة المجانية التي تصل بسرعة ومن دون خطأ إلى هدفها، موجودة في مختلف الثقافات والأعراق، إلا أنها تتخذ في بلداننا العربية وتحديداً سوريا بعداً ثقافياً، ونظرة دونية إلى المرأة دينياً واجتماعياً واقتصادياً.
وفق موسوعة “ويكي” للجندر، الشتائم الجنسية في العالم العربي تنبع من تابو الجنس في المجتمعات العربية وتهدف إلى الإهانة والإساءة والنيل من الكرامة الشخصية والتقليل من المكانة الاجتماعية للشخص الذي تُوجه إليه، وبخاصة في المجتمعات التي تعنى بثقافة العار والشرف.
“العرب ظاهرة صوتية” كما وصفهم عبدالله القصيمي، وبذلك يمكن تخيّل هذا الأمل الذي يربيه العرب على الشتيمة الجنسية، بقدرتها على تحطيم الآخر، رجلاً كان أو امرأة.
جولة في عالم الشتائم
“شرموطة”، قد تكون هذه الشتيمة الأكثر رواجاً لإسكات أي صوت نسائي في السياسة والاقتصاد والمجتمع والحقوق. فالمرأة التي تعمل أو تعبّر عن رأيها أو تطالب بحقوقها أو لا تحبّ الطبخ أو طلّقت زوجها أو لبست تنورة… “شرموطة”.
حتى أنّ النساء الأخوات والأمهات يحصلن على نصيبهنّ من ابن أو أخ سيئ السمعة أو لديه أعداء أو غير ذلك، الشتيمة تستهدفهنّ مباشرة “أخو الشرموطة”، “ابن الشرموطة”. حتى أن الشتيمة تأتي أحياناً للتحبب والمجاملة وفي جلسة مزاح بين الأصدقاء، فيشتم الأول أخت الثاني، فيردّ الثاني الشتيمة، فيضحكان معاً.
“كـ… أمك” أو “أختك”، شتيمة ناقصة من حيث المعنى وتحتاج إلى إضافة صفة مهينة للعضو التناسلي النسائي، بمعنى أنه ليس أعذر أو طاهراً، كما تقتضي قوانين القبيلة. لكنّ مجرّد التلفّظ باسم العضو التناسلي عند أخت فلان أو أمه، يعتبر إهانة!
وفرج المرأة لشدّة الهوس به له في اللغة العربية عشرات الأسماء والمترادفات، مثل: الحر، الطبون، التبنة، الغلمون، العص، الزرزور، الشق، أبو طرطور، أبو خشيم، القنفوذ، السكوتي، الدكاك، الثقيل، الفشفاش، البشيع، الطلاب، الحسن، النفاخ، أبو جبهة، الواسع، العريض، أبو بلعوم، المقعور، أبو شفرين… ألخ!
الشتيمة الجنسية والثورات
في ثورات الربيع العربي، من سوريا ومصر وتونس وصولاً إلى لبنان، لعبت الشتائم دوراً مهماً في التنفيس عن الغضب والتعبير عن الظلم والرغبة في التغيير، وفي كسر صورة القدسية عن الزعماء والمسؤولين السياسيين.
وقد رأينا أن تلك الشتائم تركّز بشكل أساسيّ ليس على الزعماء أو المسؤولين السياسيين أنفسهم، بل على “شرف” أمهاتهم وأخواتهم. وفي آخر تلك المشاهد، رأينا اللبنانيين في الساحات يوجّهون شتائم جنسية إلى نساء لا دخل لهنّ في الأمر، سوى أن أولادهنّ يشاركون في الحكم، مثل أم الوزير اللبناني السابق جبران باسيل، التي نالت نصيباً وافراً من الشتائم في التظاهرات.
وقد انتفضت الحركة النسوية في لبنان ونظمت تظاهرات مناهضة للشتيمة الجنسية الموجهة ضدّ النساء.
الصحافي عمار مأمون يقول في هذا الإطار: “أولاً لا بد من الأخذ في الاعتبار أن لا شتيمة بلا توجيه إهانة إلى فئة ما. وتاريخياً يعتبر التأنيث مذمة أو نقصاً ما، وهذا بالطبع يعيه الجميع-نظرياً- لكن، استخدام الشتيمة المرتبطة بالمرأة يختلف بحسب سياقها، وطبيعة توظيفها.
ويضيف “لا يمكن القول إنه بالإمكان تجنبها كلياً، لكن السياق ذاته يحدد إن كانت موجهة ضد كل النساء، أم ضد فرد محدد ضمن سياق ما ونبرة ما، وهذا ما نراه أثناء ثورة لبنان، إذ انصبّ الشتم على الوزير السابق لجبران باسيل، وتحديداً على أمه. هنا الموضوع أشد تعقيداً، كونه يستهدف شخصية عامة هي باسيل نفسه، لا الأمهات جميعاً”.
وتابع: “لا أظن أن الموروث والوعي هما العاملان الأساسيان في الموضوع، لكن يختلف الأمر لدى كل فرد، وطبيعة الشتيمة، لكن ما يجب أخذه في الاعتبار، هو الموقف الذي تطلق منه الشتيمة، المكان الذي يقف فيه الشاتم وإلى من يتوجه، هل يُعيّر أحدهم بنقصٍ ما، أو يستغل ضعفاً ما، أو لا؟ الخوض في التكوين اللغوي للشتيمة لا أجد منه فائدة، بل بالسياق الذي تظهر فيه، وكيفية تحولها إلى شتيمة وتوظيفها، مثقفاً كان الشاتم أو غير مثقف، لا يهم، ما يهم هو السياق. من يشتم من، ولأي سبب؟ وبأي نبرة؟”.
جولة أخرى بين الشتائم
“بندوق”: كلمة دارجة في بلاد الشام، من أصل تركي، ذات دلالة جنسية، ويقصد بها أن الشخص الموصوف هو ابن علاقة جنسية غير شرعية، أي أنه ابن زنا، وغير معروف النسب أي “لقيط، وتستخدم كلمة بندوق في بعض الأحيان لوصف الشخص الماكر والذكي ولكنها بالأصل تحمل معنى مسيئاً.
“منتاك/ة”: للرجل تشير هذه الشتيمة الى أنه منكوح أو مفعول به أو مثلي، وتعني أيضاً أن الرجل محل الشتيمة ضعيف. وللمرأة، تعني هذه الصفة أنها أقامت علاقة جنسية، وهو أمر ما زال محط إهانة وفضيحة، كأن يقال لرجل “ابن المنتاكة” أي أنها نُكحت وأقامت علاقة جنسية، على رغم أنه شيء طبيعي وإلا لما كان موجوداً في الحياة.
في هذا الإطار، صفوان قسام المختص في علم الاجتماع، يقول لـ”روزنة” إنه “بعد سيطرة العقلية الأبوية على المجتمعات، وضعت المرأة في مرتبة أقل من الرجل، فأصبحت أي أنثى تمت له بصلة القرابة سواء أم أو أخت أو ابنة وحتى زوجة، تمثل شرفه وعرضه”، مضيفاً: “استخدام هذه الشتائم الجنسية لها وقع أشد من القتل بالنسبة إلى الرجل العربي”.
انقلاب ذكوري
في التاريخ القديم، يقول الصحافي المختص بالكتابة الايروتيكية والجندرية عمار مأمون، “عبد الرجال آلهةً نساء، وجعلوا منها رمزاً للحب والحرب والسلام والخصب كالآلهة عشتار وإنانا وايزيس وافروديت”، لكن العقلية الذكورية عبر آلاف السنين الماضية انقلبت على المجتمع الأمومي حاملة معها تسميات كـ”شرموطة” لتحل مكان الاحترام والتقدير للنساء ومفهوم الخصوبة والعطاء والإنجاب.
والآن، انتقل استخدام هذه المفردات من التراشق اللفظي في الحياة العامة إلى وسائل التواصل الاجتماعي. وبحسب ما رصدت “روزنة” تعتبر ألفاظ “شرموطة، ابن الشرموطة، ك. أمك أو ك. أختك، ابن الزنا، ابن الحرام، وابن البترونة” الأكثر استخداماً ضد الرجال والنساء. ومفردات أخرى يوسم بها أصحاب الميول الجنسية المثلية مثل “م..ك، م…ك، وخرنتة”.
تقول الناشطة النسوية فضيلة الشامي: “بسبب الجهل يعمد كثيرون إلى استخدام أعضاء المرأة التناسلية في الشتائم، كما يستخدمون وبشكل قبيح العضو التناسلي الذكري، وأحياناً الحيوانات المنوية مثل (ملعون بذاره، أو ملعونة البذرة يلي انصنعت منها، أو يلعن أبوك… إلخ). إنما تبقى للنساء الحصة الأكبر في الشتائم التي تبنى على أعضائهنّ التناسلية وسمعتهنّ وشرفهنّ وغشاء العذرية المقدّس”.
“نحن عائلة مستورة”
العام الماضي ظهر محمد صابر شرتح عبر فيديو مباشرة على فيس بوك، معلناً نيته ترشيح نفسه إلى منصب رئيس الجمهورية السورية، وبدل انتقاد شرتح نفسه، انهالت الشتائم على نساء عائلته. ووصفه المعلقون بأنه “ابن زنا”.
ولشدة الإهانات التي استهدفت نساء عائلته، ظهرت والدته المسنة بفيديو عبر “فايسبوك” لتقول: “نحن من عائلة مستورة ما بتحب المشاكل … حرام عليكن عم تقولوا أمه كذا، وأمه زنت فيها، نحن عائلة مستورة، وسمعتنا ما حدا بيحكي فيها”.
يقين بيدو
الإعلامية ميرنا الحسن والمعروفة بـ”يقين بيدو”، تروي تجربتها مع الشتائم، تقول: “تعرضّت لشتائم جنسية من الزنار وتحت، من مؤيدي النظام ومعارضيه مرتين.
“المرة الأولى حين أشيع عني من قبل النظام أن أشخاصاً من فصائل المعارضة اغتصبوني في مدينة سراقب بريف إدلب أثناء تغطيتي المعارك، والمرة الثانية راهناً حينما قلت إنه لم يكن هناك ثورة قبل عام 2015، فكان الهجوم من أبناء الثورة بطريقة غير حضارية وهو ما آلمني وفاجأني”، تتابع بيدو.
قصة هذه الإعلامية هي قصة صحافيات وناشطات كثيرات، يُعمل على قمعهنّ وعرقلة عملهنّ بالشتائم الجنسية وما تحويه من تخلف وذكورية.
الشتيمة كنكتة
لا شك في أن الشتائم الجنسية أصبحت جزءاً من الموروث الثقافي واليوميات الاجتماعية، فلا يمرّ يوم من دون شتائم، التي أصبحت في مكان مقبولة اجتماعياً، وطريقة للتفلّت من القيود، كما يستخدمها كثيرون للنكات والمزاج.
يقول وائل، (27 عاماً): “هذا النمط من الشتائم ممكن أن يكون مادة دسمة لسهرات الشباب، وبتذكر مرة تخانقت مع واحد لأنو حسيتو عم يسبني بأختي عنجد”.
توافقه يسرى (25 عاماً)، موضحة لـ”روزنة”: “منحكي هالكلام بالمزح ومنشان ما تكون القعدة جامدة، أنا ورفقاتي كل حكينا من هي المسبات وما بنكون قاصدينها أصلاً”.
أقلعت هناء (38 سنة) عن استخدام هذه الشتائم وتعلل السبب: “كنت أستخدم الشتائم مع رفاقي على سبيل المزاح، لكنني ما كنت أعرف أنها تسيء إليّ قبل أن تسيء إلى الآخر، ولكن منذ 8 سنوات أقلعت عن السباب، وحين أسمعه من شخص آخر، لا أتردد في توبيخه”.
باسكال صوما _ روزانة