لم تكن اختيارات بشار الأسد للمدعوين إلى قصر الشعب في حفل “القسم” عشوائية أو نمطية، فهذه المرة يبدو أن القائمين على حملة “الأمل بالعمل” انتقوا الحضور بدقة، ليكون بينهم طبيب الفقراء وخبير صيانة النواعير وأول مختارة في سوريا وأول رئيسة مجلس بلدة، وغيرهم العشرات ممن تظهر حالتهم وسيرتهم الذاتية شكلاً وردياً لسوريا.
هذه الانتقائية الجديدة استمرت لاحقاً في جولة بشار الأسد وعائلته بدءاً من مطعم الشاورما في حي الميدان الدمشقي وحتى قرية بستان الباشا موطن والدته، مروراً بمسجد خالد بن الوليد في حمص.
الآن خف الضغط على بشار الأسد باستثناء الأزمة الاقتصادية التي يبدو أنه راض عن طريقة إدارتها ضمن هذا المستوى الذي نشهده حالياً والذي لا يتسبب بمجاعة ولا بـ “أحداث شغب”، فبعد استتباب خريطة السيطرة لصالحه واستعادة حكمه على الجيوب المحاصرة لقوى المعارضة والثوار، وعدم وجود تهديد حقيقي من شمال غربي سوريا المضبوط تركياً، وانعدام أي ضغط دولي عليه يجبره على سلوك طريق المفاوضات الجدية لحل سياسي في سوريا؛ يمكن لبشار الآن التفكير بشكل أفضل مما هو كان عليه الحال قبل أعوام خلت.
الاستثمار في الطبقة الوسطى من التجار
أراد بشار التجول في دمشق، وفي هذا الظرف الاقتصادي المتردي قرر أن يأكل من طعام الطبقة الوسطى التي لطالما كانت رافعة البلاد، وهنا كان خيار صندويشة الشاورما التي يبلغ سعرها حسب آخر نشرة لمديرية التجارة الداخلية وحماية المستهلك 3000 ليرة سورية، وهو سعر لا يلتزم به أحد في البيع.
وللشاروما السورية رمزية نجاح، فالمطاعم السورية تميزت في تقديم صندويشة لذيذة، سواء كانت في الداخل السوري أو في دول المهجر واللجوء.
أما عن المطعم الذي اختاره بشار ومساعديه ألا وهو شاورما أنس – فرع الميدان، فهو مناسب من حيث الطعم – علماً أن الصندويشات كانت خالية من المايونيز – ومن حيث المكان الذي يساعد بشار على تقديم عرض بمزيد من العفوية لخلوه من الطاولات ما يساعده على الاختلاط أكثر بعمال المطعم وتجاذب أطراف الحديث معهم.
كانت الصندويشات جاهزة قبل وصول عائلة الأسد وكانت البطاطا متبلة وهو ما أثار ريبة بشار وكانت المرافقة تملأ المكان وكان ابن أخت “الحجي أبو أنس” صاحب المطعم موجوداً.
في الفيديو الذي صوره أحد عمال المطعم يسأل بشار ابن أخت صاحب المطعم عن الحجي أبو أنس فيجيبه أنه في تركيا.
الغاية من تساؤلات بشار تصوير الزيارة على أنها عفوية وأنه لا يعلم شيئاً عن المكان الذي قرر تناول وجبة العشاء فيه خارج قصره.
وبحسب موقع المطعم فإن له فرعين في سوريا و4 في إسطنبول وواحد في القاهرة، ويوجد مطاعم أخرى في الأردن تحمل نفس الاسم لكنها غير مدرجة في الموقع الرسمي ضمن الفروع، وربما يعود ذلك إلى بيع الاسم لهذه المطاعم دون أن تحسب على السلسلة.
يقدم “أنس” نموذجاً لرؤوس الأموال الدمشقيين المتوسطين الذين نجحوا في الخروج من سوريا باكراً وتوسعة أعمالهم في كل الأماكن التي احتضنت السوريين الهاربين بملابسهم وأرواحهم من قصف النظام وملاحقته الأمنية التي تنتهي بالقتل تحت التعذيب، وهؤلاء أبقوا على أماكن عملهم ومصانعهم ومطاعمهم في سوريا وتوسعوا خارجها، وهي فئة لم تظهر اصطفافا سياسيا لا إلى جانب النظام ولا إلى جانب الثورة، ما يجعل منها خياراً مناسباً لبشار في هذا الوقت، فهو لا يمانع أن يتوسع هؤلاء خارج سوريا ما داموا يحتفظون بفروعهم بالداخل، ولذلك طلب بشار من مدير الفرع إيصال السلام للحجي أبو أنس الذي يعيش في إسطنبول والذي تعرضت فروعه لحملة من ناشطين استهدفته من خلال تقييم سلسلة مطاعمه بنجمة واحدة، كنوع من الاحتجاج السلمي، في حين ردت فروع أنس بجملة واحد على جميع التعليقات بالقول: “شهادة زور نواجهك بها أمام رب العالمين” و “قضيتكم ليست مع شاورما أنس”.
أعاد الأسد ترتيب رؤوس الأموال الكبرى في البلاد طغى عليها تجار الحرب الذين توزعوا المكتسبات الاقتصادية الهائلة وفق محاصصة طائفية ومكانية وتخصص من ناحية المجال الاقتصادي، ورغم الإتاوات التي حصلها مؤخراً من كبار التجار في سوريا والتي أنقذت سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار وخفضته من 5000 إلى 3200؛ إلا أن طبقة التجار الوسطى يمكنها أن تساهم أيضاً في إنقاذ الوضع لضخ مزيد من العمل والأمل والعملة الصعبة القادمة من فروع الخارج.
هذه الطبقة الوسطى من التجار السوريين فتحت خطوط الاستيراد من سوريا، فميناء طرطوس يضخ الغذائيات السورية إلى ميناء مرسين وموانئ إيطاليا ومنها إلى أوروبا، وهي حركة يحتاج إليها النظام لإيجاد سوق تصريف خارجي قادر على شراء المنتجات السورية التي لم يعد أبناء الداخل قادرين على شرائها بعد كل تلك الارتفاعات المتواترة في الأسعار.
حمص ومسجد ابن الوليد والبحث عن “التنوع”
قرر بشار الأسد أن يصلي العيد في جامع خالد بن الوليد الكائن في حي الخالدية في مدينة حمص، فللمسجد رمزيته التاريخية والدينية، لكنه حمل للأسد رمزية أخرى وهي رمزية انتصاره على أهالي حمص المحاصرين قبل سنوات.
رممت وزارة الأوقاف مسجد سيف الله بعد أن دمرته وزارة الدفاع وأصبح المسجد مناسباً لأن يصلي فيه “الرئيس”، وربما هذه الاستراتيجية التي يريد الأسد المضي وفقها إلى سوريا قابلة للعيش، وأن إمكانية الترميم المادي والاجتماعي ممكنة، وأن المساجد مفتوحة أبوابها أمام المصلين المسبحين بحمد النظام لا أولئك المتظاهرين “الذين يزرعون الفتن”.
“لكن لماذا حمص؟
تداولت وسائل إعلام النظام نصاً لشخص مجهول كان مشاركاً في صلاة العيد في جامع خالد بن الوليد، ذكر فيه ما قاله بشار في المسجد، وهذا أسلوب جديد في طرح التصريحات بطريقة غير رسمية، ولجأ إليها الأسد ابتعاداً عن المسؤولية التي قد ترتد عليه لما يحمله كلامه من أفكار جديدة لم يطرحها سابقاً.
وقال بشار بحسب النص الذي تداولته وسائل إعلام النظام: “لم يكن عبثا مجيء الإرهابيين إلى حي الخالدية بحمص فهم لم يفكروا بذلك من وجهة نظر عسكرية أو ميدانية، بل فكروا بها من منطلق الرسالة وأرادوا لهذا الرمز الذي من المفترض أن يكون رمزا لتوحيد الناس، بينما هم دخلوا الجامع ليخلقوا الفتنة، فالمسجد ليس فقط مكانا للصلاة هو أيضا موقع تاريخي ومعنوي وعقائدي بالنسبة لأهل مدينة حمص المعروفة بتنوعها”.شهدت أحياء حمص المحاصرة حتى قبل حصارها.
يريد بشار أن يعيد لحمص تنوعها الطائفي الذي يريده، وبما أنه يعلم أن الكرة في ملعب طائفته فإنه لم يطلق هذه التصريحات لهم بشكل مباشر.لم يزر بشار مدينة حلب حتى الآن رغم أنه وبلسانه وصف معركتها بأم المعارك ونقطة التحول الأكبر في سوريا وهو أمر يثير التساؤلات ويطلق العنان لنظريات كثيرة لفهم السبب، أما مدينة حماة فقد زارها عام 2017 في فترة كان يريد فيها استعراض انتصاراته. هذه المدينتان لا تمتلكان حاليا ما يريده الأسد.. التنوع والإسلام المسالم جداً.
الطائفة الناجية من الحرب.. تعزيز المربع الأول
اقتحم بشار الأسد بكل عفوية جلسة تصوير العريسين زين وبتول في قرية بستان الباشبا بريف جبلة والتقط أحدهم تسجيلاً مصوراً للحديث الذي أدارته أسماء مع العريسين، فزين جندي احتياط سابق في جيش النظام لمدة 9 سنوات وتسرح مؤخراً ليعمل كمزارع في أرض استأجرها، والآن يتزوج بتول تلك الشابة الجميلة التي ترتدي فستاناً أنيقاً.
زين نجى من الحرب التي دافع فيها عن نظامه ونجح في العيش عبر الزراعة والآن يتزوج فتاة أحلامه، ولكن هذه القصة لا يمكن إظهارها في هذه المثالية كي لا يشك المشككين بعفوية اللقاء والانتقاء، فتبين أن لديه مشكلة وهي أن المصرف الزراعي لم يمنحه قرضاً لشراء أرض.
صورة زين لم تعلق على الجدران إلى جانب مئات الصور لقتلى النظام في ريف جبلة، وعشرات الصور من قرية بستان الباشا ذاتها التي خسرت قسماً كبيراً من شبانها في معارك الدفاع عن النظام..
بستان الباشا التي تنحدر منها أنيسة مخلوف والتي خطفها حافظ الأسد وتزوجها فأنجبت ولداً أبلهاً يحاول لملمة بلاد بعد أن مزقها وأحرقها وأهلك فيها الحرث والنسل.
- عبد الله الموسى _ تلفزيون سوريا