يفيض الدم السوري المجاني من جديد في جنوب البلاد في تكرار لمحاولات إشعال الفتنة بين الجبل والسهل، واستكمالاً لسلسلة الخطف المتبادل بين الجيران القدامى في درعا والسويداء، واستثمار العصابات لأموال الضحايا، ومعارك الانتقام من الأبرياء في هذا المستنقع المجنون.
وسواء كان المسبب والمستفيد من كل هذا الجنون النظام ومخابراته أو حلفاؤه الإيرانيون والروس فمن يدفع الثمن الحقيقي هم البشر الذين لا ينقصهم هذا التوحش فيكفيهم ما آلوا إليه من فقر وذل نتيجة سياسات قهرية لم تكن وليدة الحرب فقط، ولكنها نتيجة سياسة إقصاء وتهميش منذ أن وصل البعث إلى سدة الحكم، واتخذ قراره بالإبقاء على هذه المدن رهينة فيما لو حاولت الخروح عليه.
أما الجنون الآخر الذي يعصف بالسوريين فهو سعار القتل والهوس وانفلات المعايير الأخلاقية واختلاطها مع متطلبات الحياة الهجينة في دولة الأسد الجديدة التي بنيت على استهلال الدم والقتل، والحوادث الأخيرة تشي بانتشار أكبر للجريمة التي باتت تسكن بيوت السوريين على اختلاف طوائفهم وولاءاتهم.
منذ أيام قليلة يقدم كاتب، كما يسمى، على قتل عائلته بالرصاص ثم ينتحر، ومن ثم تأتي الروايات المتضاربة عن تورط الزوجة في الجريمة، واتهامات لأذرع القتل وميليشيات النظام فيها، ويتعمق الأمر ليصل إلى أن هناك ما هو أكبر مسكوت عنه في علاقة هذا الأديب بمافيات القتل، ووجود السلاح في بيته، وكيف يمكن للسلاح أن يكون في كل بيت سوري حتى أولئك الذين يعيشون على الكتابة وسلاحهم الكلام.
في الخارج تقدم سورية لاجئة في تركيا على قتل ابنتها ذات السنة الواحدة عضاً، وتعترف بالقتل هوساً بعيني الصغيرة التي تخيفها، وهذا جنون آخر بات يسكن الذات المحطمة بلوثة الحرب ومشاهد الموت الفظيعة التي يبدو أنها أخذت من أرواح السوريين ما أخذت.
جنون آخر في انجراف جيل بأكمله نحو الدعارة والمخدرات، وباتت مدن سورية مرتعاً للتعاطي على اعتبار أنه منجاة من واقع اقتصادي وسياسي وإنساني محطم، وقصص يومية عن عصابات الترويج والتعاطي في بيوتات كانت آمنة، وأما الدعارة فكانت محصورة بأشخاص بعينهم وأماكن يشير إليها السوريون بالبنان على أنها ليست منهم.
القادم يبدو أكثر قتامة في ظل تصاعد الضغوط المادية على الناس، وانعدام آفاق الحل سواء أكان شاملاً أو وفق توافقات بين القوى المتصارعة الإقليمة والمحلية والدولية، وفجوة الجنون مرشحة للاتساع على أبعد من القتل والجريمة، وباتت فكرة عودة المجتمع الأهلي السوري إلى توافقاته في العيش المشترك أبعد من المستحيل.
ما يفرّق السوريين أصبح هو السائد، وما يجمعهم من مصير وطن وخلاص بات هو أيضاً شأناً شحصياً فالنجاة الفردية سائدة، والأنانية والانتهازية شعارات مرحلة أقل ما يقال عنها إنها أردأ مراحل الحياة على هذه البقعة من الأرض، وأما الحنين إلى الياسمين الدمشقي والأحجار السوداء في الجنوب ومياه الفرات وبردى والعاصي ما هي سوى ضروب من الفرار إلى ما لا يمكن أن يكون..سوريا ليست بخير أيتها السوشال ميديا البائسة.