تمخَّضت عن سنوات الحرب الطاحنة في سوريا تغيراتٌ مسَّت عمق الحياة الاجتماعية، هدمت من خلالها العادات والتقاليد وكلَّ الأعراف التي كانت تتحكَّم بالمجتمع وتُحكم سيطرتها عليه، ولكن، هل يعني ذلك أنَّ ما انبثق عن هذه الحرب من تحولاتٍ هي أفضل حالاً ممَّا كانت عليه قبل الحرب؟ إنَّ الإجابة عن هكذا تساؤل يفضي بنا إلى إجابات شتَّى، كلُّ إجابة تحمل مبرِّراتها التي تتناسب مع حالتها الخاصة التي آلت إليها، ولا مجال هنا للتعميم المفرط وغير الموضوعي، فالبنية الاجتماعية في المجتمع السوري تعيش مفصلاً تاريخياً، يقوِّض فيه الحاضر البنية القديمة تقويضاً كاملاً، ويبني بدلاً منها بنى تخصُّ المستقبل، حتى غدت هذه البنى على شكل لوحة دادائية لا علاقة تربط بين عناصرها، على الرغم من أنَّ جميع هذه العناصر تنتمي للمجتمع ذاته.
إنَّ مؤسسة الزواج في عرف المجتمع السوري من أكثر المؤسسات الاجتماعية التي تعرَّضت للتغيير من حيث القوانين والعادات والمراسم والعديد من الإشكالات الأخرى التي تنعكس على الأسرة وبالتالي على المجتمع ككل، فصرنا نشهد عزوفاً عن الزواج بشكل نهائي بين الرجال والنساء على حدٍّ سواء، كما صرنا نشهد تعدداً في الزوجات يقابله ارتفاع في معدلات الطلاق، ناهيك عن زواج القاصرات والكثير الكثير من الظواهر التي لا ننكر أنها كانت موجودة في المجتمع السوري، لكنها أصبحت صارخة بشكل أكبر بعد مرور سنوات من الحرب، غدت المرأة تعيش علاقةً غير متوازنة، تعاني خللاً حقيقياً في توزع الأدوار النمطية التي كانت سائدة في المجتمع، ويعود سبب هذا الاختلال لمنطق المجتمع الذكوري المسيطر على معظم العقليات المتحكمة بحياة المرأة ومصيرها.
ومن ضمن اهتماماتي بقضايا النسوية وجدت نفسي محاطة بعدة سناريوهات لحالات زواج متشابهة، كانت المرأة فيها طرفاً غير مُنْصَف، طرفاً مسلوب الحقوق والحريات، بدأت أتتبع خيوط الحكايات التي شدتني على الرغم من تشابكها، وفكرت أن طرح مثل تلك القصص للنقاش والجدل يحفزنا على التفكير بواقعنا ومصائرنا، فنحن حقاً نعيش في مشكلة حقيقية على المستوى الاجتماعي، هذه المشكلة ستتفاقم يوماً بعد يوم إن لم يتم مجابهتها والوقوف بوجه سريانها في عمق البنى الاجتماعية.
تحكي مريم. د. م التي تعيش في الشمال السوري قصتها فتقول: “تزوجت وكان عمري قد قارب العشرين، وذهبت عروساً إلى بيت أهل زوجي، وبعد مرور شهر سافر زوجي إلى تركيا، بطريقة غير شرعية، ومرت الأيام وها أنا قد مرَّ على زواجي ست سنوات، كان زوجي يأتي لزيارتنا في كل سنتين مرة واحدة، ولأيام معدودة، كنت أحمل خلالها جنيناً في بطني، أنجبت بناتي الثلاث وهو بعيد عنهن، تحملت جميع مسؤولياتهن وحدي، هذه مشكلة كبيرة، ولكن المشكلة الحقيقية أنه بدأ يفكر بالزواج من غيري؛ لأنني لم أنجب له الولد الذكر بعد، وعندما سألتها لماذا لا يفكر زوجك بإحضاركم إلى تركيا، أجابت: إن تكاليف زواجه بفتاة جديدة أقل بكثير من تكاليف إحضارنا إلى تركيا”.
تفكك مفهوم الأسرة عند أغلب الرجال الذين غادروا أسرهم بهذه الطريقة، فما عادت الرابطة الاجتماعية تجذب الأب أو الزوج لذلك الحنين الأسري الدافئ، إذ سقطت منظومة القيم الاجتماعية في لوثة الحرب المدمرة
بينما تتحدث نُهى. ح. م التي تعيش في مخيمات الشمال، فتقول: “سافر زوجي وتركني مع ولديَّ الصغيرين، أعيش مع عائلة زوجي في المخيم، وكان يزورنا في الأعياد عندما تفتح الحكومة التركية أبواب الزيارة للسوريين، نشب في أثناء غيابه خلاف حادٌّ بيني وبين والدة زوجي التي أضمرت لي في نيتها، وفي الزيارة التالية لزوجي فاجأني بزواجه الجديد فور وصوله من فتاة تعيش في المخيم، تركت ولديَّ وذهبت إلى أهلي لعله يعود إلى رشده، لكنه لم يبدِ أيَّ اهتمام بي، تغلبتْ عليَّ عاطفة الأمومة وعدت مقهورة مكسورة إلى بيت أهل زوجي الذي تركنا هذه المرة أنا والعروس الجديدة، ليعود إلى تركيا وتبدأ معاناتي المضاعفة”.
أتساءل عن القانون الذي يمكنه أن ينصف المرأة في مثل هذه الحالات، المرأة التي تعيش جلَّ حياتها وكأنها أرملة بلا زوج، تتحمل مسؤوليات عائلتها، وتكبت حاجات جسدها وروحها، وعلاوة على ذلك فإنها لا تستطيع أن تتخذ قراراً في أي أمر يمس مصيرها، ولا يمكنها أن تعبِّر عن رأيها ضمن منظومة أسرية ذكورية تفكِّر معظمها بالعقلية ذاتها، بينما يطلق الرجل لرغباته العنان، بعيداً عن حياة المسؤولية، واتخاذ القرارات الحاسمة والمشتركة الخاصة بتربية أبنائه وتنشئتهم وتعليمهم.
لقد تفكك مفهوم الأسرة عند أغلب الرجال الذين غادروا أسرهم بهذه الطريقة، فما عادت الرابطة الاجتماعية تجذب الأب أو الزوج لذلك الحنين الأسري الدافئ، إذ سقطت منظومة القيم الاجتماعية في لوثة الحرب المدمرة، المشكلة تقع بين حلين من الصعب أن يتحقق أحدهما، فلا القانون في تركيا يستطيع أن يجبر الرجل على استقدام أسرته أو يسهل استقدامها في ظل تضخم عدد اللاجئين الذي تعاني منه تركيا، ولا القانون في الشمال السوري وصل إلى الحدِّ الذي يؤهله للسيطرة على ذلك الانفلات الاجتماعي غير المنضبط.
من حق المرأة أن تعيش حياتها الطبيعية، من حقها ألا تكون التابعة أو المُهَيْمَن عليها، وألا يُنظر إليها على أنها ذلك المخلوق الضعيف والهش، فلا يوجد أيُّ مبرر يجعلها تدفع الثمن الذي ما فتئت تدفعه منذ بداية الحرب وحتى اللحظة الراهنة، كلُّ ذلك في ظلِّ غياب حلٍّ في الأفق القريب، إن ما تعيشه المرأة في سوريا بحاجة إلى ثورة على تلك المنظومة الاجتماعية قبل أن تترسخ بشكلها المشوه والممسوخ، تحتاج المرأة من خلال تلك الثورة إلى أن تسمع صوتها الداخلي لتجد هويتها في هذا العالم المتغير.
فاطمة عبود _ تلفزيون سوريا