المحامي محمد علي صايغ _ syria press_ أنباء سوريا
الحديث عن الدين والسياسة والرموز الدينية يتصاعد يوماً بعد يوم، حديثاً لم يعد يقتصر على الجلسات الخاصة بين المهتمين، وإنما امتد بشكل كثيف إلى منابر التواصل الاجتماعي، هجوماً يتبعه هجوم مضاد.. يعزز ذلك ما حدث في السنوات العشر الأخيرة من انبعاث مجموعات التطرف (داعش والنصرة)، وما أحدثه ظهورهم من كوارث على المجتمعات والدول.
وكرد فعل على هذا التمظهر لتلك الجماعات وتقديم نفسها حامية للدين ومؤسسة لدولته .. تحركت من كل فج عميق الأصوات التي تعتبر الأديان عامل تخلف وشد لماض تشكك في حقيقته وموضوعيته، وتتحرك إلى جوف التاريخ لإثارة قصص وسير منتقاة عن الرموز الدينية وشخوصها والهجوم عليها للنيل منها ومن سلوكياتها المشينة التي يخفيها التاريخ عن بسطاء الناس الذين لا يعرفون سوى أمجادها وبطولاتها المزيفة.
والأكثر موضوعية ينادي بحق مدنية الدولة، وفصل الدين عن السياسة، وإذا كان “الدين المسيس ليس دين، ولا السياسة المتدينة سياسة” فإن فصل الدين عن السياسة يعني فيما يعنيه عدم مذهبة الدولة، وإطلاق الدين رحباً في مساحته وحدوده، وانعتاق السياسة من وصاية الدين عليها، وتركيز انشغالها بما يخدم مواطنيها، ويلبي حاجاتهم، وينظم حياتهم المدنية وفقاً لدستور وقوانين ومؤسسات وهيئات ترعى مصالح الجميع دون استثناء أو تمييز.
وبالمقابل فإن الهجوم على الدين باعتباره مضاد للتقدم، عبر القراءة المجتزأة لنصوص بعينها دون الإحاطة بفقهها وأسباب وظروف نزولها، وعبر تناول الشخصيات التي ساهمت بالدعوة للدين وكانت سندانه، وتشويهها والصاق تهم بها استناداً إلى روايات بعينها لتأكيد نظريتها في أن الدين مجرد اختراع بشري يمكن دحض ما جاء فيه، وأن رجالاته ومريديه والهالة أو الكاريزما التي أحيطت بهم مجرد أوهام لا تستند إلى مستند في التاريخ.. ومن هنا، فكما المشككون في الدين ورموزه التاريخيين، فإن الإسلامويون أيضاً لهم دور وظيفي، وقد تم إعدادهم (من جهات صنع القرار الإقليميين والدوليين) بدور تشويه الدين بالتعصب والتطرف والأوهام والخرافة، وتحميله مالا يحتمله.. وهذا الدور لم يرسم للاسلام فحسب وإنما لكل الأديان ممن يمثلها من رجال الدين.. إذ أن بعض رجال الدين تم تصنيعهم صناعة من أجل أغراض متعددة من ضمنها تشويه الأديان، ومنهم من حرف الأديان ودس في السير الدينية ٱلاف الحوادث والقصص لتشويهها، وتشويه الشخصيات الأولى التي حملت هذه الأديان إلى القاع الشعبي.. والأديان في جوهرها رسالات محبة وإخاء ومساواة وعدل … واستخدام الشخصيات والرموز الدينية في محاربة الأديان وخاصة محاربة تيار الإسلام السياسي (الإسلام السياسي بكل مذاهبه) الذي جلب المصائب على شعوبنا وأوطاننا هو بحقيقته جزء من حملة كبرى على كافة الأديان السماوية.
وحيث أن التاريخ وحوادث التاريخ حمالة أوجه، فلا يجوز الحكم عليها بمقياس الحاضر دون مراعاة الزمان والمكان والبيئة والظروف، في تلك المرحلة.. خاصة مع اختلاف مقاييس الأمس باليوم، تبعاً لتطور العلوم وتطور العقل البشري، ودون الأخذ بالاعتبار سيادة نمط عقل العشيرة والقبيلة والعصبة والعصبيات سابقاً، وامتداد بعضها – جزئياً – في أوطاننا إلى اليوم.
وإذا كان من حق الناس الاعتداد بدينها كما من حق كل فرد التمسك بمعتقده وفكره وأيدلوجيته، وأن يتمثل بمن يشاء من الأبطال أو الرموز من سير دينه وتاريخه / سواء كانوا أبطالاً فعلاً أم لم يكونوا من وجهة نظر البعض / ، فإنه يبقى الحق بالاختلاف في الدين والمعتقد حق مشروع للجميع .. بشرط عدم الإضرار بالٱخرين النبش بالماضي – كما يعمد البعض – هو نبش في قبور لم يعد موجود فيها أشخاصها، تعود إلى ماض بعيد كان ولا زال أحد أسباب تخلفنا، واستخدام نتائجه في إسقاطات لا تفيد الحاضر والمستقبل، وفي كثير من الأحيان أدى إلى صراعات وتجاذبات واصطفافات، لا تخدم قضايا شعبنا وأمتنا في استدعاء للتاريخ بشكل قسري، منذ 1400 عام وأكثر، يبدأ من خلاف علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان.. إلى معركة الجمل.. ومن ثم صراع على أحقية الخلافة لعلي وافضليته على عمر وعثمان… الخ .. في استحضار للتاريخ تتبناه مجموعات وطوائف ودول (إيران مثلاً) وتروجه في عقائد وحروب، في عملية تجيبش للبشر في مشروعها السياسي مستخدمة في ذلك أحداث وقصص لا تقدم لحاضرنا سوى البقاء في حالة التخلف والتراجع.
ليس تاريخنا وحده فيه ما فيه من إشكالات ومصائب .. في أوروبا مثلاً كان هناك عصر تنوير وقبله عصر ظلام .. وفيه من التآمر والأحقاد والصراعات بما يتجاوز من حيث الشكل والمضمون تاريخنا نحن .. لكن في عصر التنوير وما بعده اشتغل المفكرون والفلاسفة ورجال السياسة على النهوض بالواقع وخرجت نظريات ودراسات لتجاوز الماضي من أجل تغيير الحاضر.. وعلى هذا الطريق ظهرت الكثير والكثير من المقاومة والثورات، بل وتم تحويل متنورين ورجال فكر إلى المقاصل.. لكن الإصرار على تسليط الضوء على الحاضر أحدث تغييراً ونهضة ..وعلى طريق تغيير الحاضر لم يقم هؤلاء المفكرون والسياسيون بالارتكاز على الماضي والتعرض للمسيح واتباعه ورجاله ومريديه، بل اعتبروا أن المسيحية دين محبة وإخاء وسلام.. هم ركزوا على تخلف وانحطاط وتحكم رجال الدين في عصرهم، وتناولوا سلوكهم وتجييش الناس واستغلالهم باتجاه تحكمهم بالسلطة والثروة والنفوذ في زمانهم، لم ينساق صناع عصر التنوير إلى تناول المسيح ومن التف حوله وإنما تناولوا سلوك وانحراف رجال الدين في حاضرهم، فانجزوا بالرغم من قسوة ما تعرضوا له تحولاً في تفكير الناس بعصرهم، فتوالدت الثورات التي عمت مرحلة بعد أخرى أغلب دول أوروبا.
الاتكاء على الماضي وخلق صراعات واصطفافات بين البشر بين مؤيد ومتحمس ومعارض ورافض لهذه الشخصية التاريخية أو الواقعة التي مضى زمانها وأوانها، لا يقدم اليوم ولا يؤخر شيئاً.. ولابد من التركيز على أخطاء الحاضر، ومن يقف بمواجهة نهوضنا وتقدمنا من مشايخ اليوم، ورجال سلطة، وعصابات مافيوية، في الاقتصاد والسياسة والفكر أيضاً، هو الذي يجعلنا نقف على أول الطريق لتقدمنا.
والإسلامويون اليوم الذين يستنسخون من عمق الماضي قيماً وقصصاً دينية منحرفة خدمة لمصالحهم وتسويقاً لسيطرتهم وتحكمهم بمجتمعاتهم لا يختلفون كثيراً عمن ينسخ الماضي نسخاً انتقائياً – ممن يطلقون على أنفسهم متنورون – لتشويهه أو خلخلة عقائد الٱخرين الدينية أو غير الدينية .. هم يمارسون بشكل موازي ذات طريقة المتعصبين والمتطرفين والسلفيين، استتباعاً لما مارس ولا زال يمارس الكثير من المستشرقين وظيفة تشويه الدين والتاريخ.
ولكن التاريخ يؤكد أيضاً أن الدين أو الأديان بصفة عامة كثيراً ما كانت حافز تصدي في مواجهة الغزو والاحتلال .. وكانت حافز نهوض ونهضة .. فلم يمنع الدين من نهوض ماليزيا مثلاً.. ولم يتوقف الماليزيون عند سيرة الخلفاء والقادة الإسلاميين، وفيما إذا تزوجوا أربعة أو عشرة، أو إذا كان لهم خلان أو خليلات.. الخ .
هم تمسكوا بجوهر الدين وجوهر الحياة واستجابوا للمتغيرات وتفاعلوا معها، فانجزوا وتطوروا. “نيلسون مانديلا” ابتدع نظرية “التفاعل الإيجابي”.. وقد حظيت باهتمام العالم كله.. وتقوم نظريته على التركيز على كل ما هو ايجابي في حياتنا، وإهمال كل سلبي.. بالتدريج سيحل الإيجابي محل السلبي.. علينا توسيع دائرة كل عمل أو فكر أو رؤية أو نمط حياة إيجابية والتركيز عليها بقوة، وإدارة الظهر لكل ما هو سلبي في حياتنا وسلوكنا ومعتقداتنا وحتى تاريخنا.. في المحصلة وبالتدريج سيطغى الفعل الإيجابي على الفعل والسلوك السلبي.. وعلى ذلك تخلصت جنوب أفريقيا من التمييز العنصري والاحتقانات والعداوات العرقية والطائفية والمعتقداتية، وأدخلت المصالحات الوطنية.. ثم تم الدفع بالمجتمع للعمل والانتاج ككتلة واحدة بعيداً عن العداء العنصري أو الديني أو المذهبي أو العقائدي.
الانشداد للماضي لا يفيد الحاضر أبداً.. وكلما زدنا جرعات نبش الماضي ازدادت الجرعات المضادة لما ننبش، وازداد الاحتقان وردات الفعل والفعل المعاكس، بزعم تخليص المجتمع من أوهامه القديمة، ومن قيوده التي تعطل حركته وتقدمه.. في حين أن أوهام التاريخ – إذا كانت أوهام – تبقى للتاريخ .. وليس هناك تاريخ في الدنيا صاف وحقيقي ومنصف .. فلماذا إذا نصر على استدعاء التاريخ .. أليس من الأفضل التركيز على الحاضر، لا لتوصيفه فحسب وإنما لتغييره.. فنحن – كما يبدو – شاطرين كثيراً في التوصيف والتحليل لواقعنا، دون ابتداع الآليات والطرق لتغييره.. لكننا عادة عندما ننتهي من التوصيف والتحليل إلى وضع آليات عملية للتغيير، تستقيل عقولنا وتستكين، ولسان الحال يقول : جفت الأقلام، وتعطلت لغة الكلام والإبداع.
المحامي محمد علي صايغ _ syria press_ أنباء سوريا