لا بدّ من الإشارة في البداية إلى أنه في عام 1986، أطلق المؤرّخ جون لويس جاديس على عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية اسم “السلام المديد”، لأنَّ الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة تجنَّبتا إشعال الحرب، على حدّ قوله. بعد ذلك بعدّة سنوات، أشار عالم السياسة جون مولر إلى أنّ الأعراف المتغيّرة قد أنهت صراع القوى العظمى. وبحلول عام 2011، كان عالم النفس ستيفن بنكر يجادل بأنّ “السلام المديد” قد تحوَّل إلى “سلام جديد” يتّسم بتراجع عام للعنف في الشؤون الإنسانيّة. هذا بطبيعة الحال تصوّر زائف لعالم قائم، في جوهره، على العنف، وأدلّ مثال تحوّل بلدان عدّة، أبرزها سوريا إلى ساحة ملتهبة للصراعات الدولية والإقليمية تمخّضت عما سأسميه تجاوزاً بـ”الدمار المديد”.
فكل شيء في سوريا اليوم يعيش في نهاية دورة حياته ينتظر، عبثاً، تجديداً وبعثاً من جديد. هذا يدفعنا، بالضرورة، للتساؤل عن أخطر مخرجات النظام السوري الذي تعامل مع رعاياه كالآلات، بينما معظم رموزه مصابون بانفصام الشخصية، ومهووسون بحب الظهور وعبادة الشخصية، كذلك إشباع رغبات مرضية دفينة في السيطرة المطلقة. فالطمع والتملق والانتهازية والدسائس وحبّ الذات عملة زبائنه وروافده الذين يؤطرون المشهد السوري الراهن الذي أقلّ ما يُقال عنه إنه كارثي.
دعونا نكن أكثر وضوحاً في الإجابة عن هذا السؤال.. ونجزم أنّ أفظع مخرجات النظام السوري ليست في تصريح السيد مارتن غريفيثس، وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، الذي أكد أن “الدمار الذي شهدته سوريا لا مثيل له في التاريخ المعاصر.” إنما الكارثة الحقيقية في الدمار نفسه، الذي لم يعد يصلح، في حقيقة الأمر، إلا لصناعة أفلام “الآكشن” العالمية. حيث تناقلت وسائل الإعلام السورية ومواقع التواصل الاجتماعي صوراً أثارت ردود فعل غاضبة بين السوريين، استغراباً لسماح النظام السوري لشركة إنتاج فني صينية باستثمار مشاهد الدمار في حيّ الحجر الأسود والدخول إليه للتصوير، بينما يحرم أهله من العودة بعد سنوات من استعادة النظام السيطرة عليه. ما يحرق القلب، حرفياً، تأكيد المخرج بابتسامته المسترخية أنّ دافعه الرئيسي لتصوير الفيلم العالمي هو “المصداقية” التي يوفرها كلّ هذا الخراب.
لعل التنبؤ بالدمار السوري المديد، لم يكن صعباً لمن اطَّلع بالتفصيل على دراسة خريطة الفقر عام 2004 التي أجراها البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، إذ ارتفعت معدلات وعمق وحدّة الفقر، في وقتٍ لم يكن الاقتصاد السوري فيه يعمل بفاعلية، نتيجة أسباب متعلقة بالفساد والاستبداد. فإفقار السوريين، لا شك، سياسة ثابتة ومستمرة على مدار الخمسين عاماً الماضية، تشارك في تنفيذها مؤسسات السلطة السورية، إضافة إلى كبار المسؤولين، عبر المزايا والرشاوى والنهب والسرقات. وحقيقة إنّ غليان الفقر والبطالة وانتشار الفساد والمحسوبية وغياب الشفافية، كانت بمثابة الجذر الاقتصادي لانتفاضة مارس/آذار عام 2011. ولم تكن السمة الطاغية على تلك الثورة أنها مجرد انتفاضة جياع وفقراء وعاطلين عن العمل، بل كانت تمظهرات تلك الانتفاضة كهبَّة شعبية طالبت بشعارات عامة كالعدالة والحرية، ولكن المعاناة الاقتصادية والمعيشية كانت الجذوة الملتهبة التي أشعلها إهدار الكرامة واللجوء لذلّ السؤال والعوز، الذي عادة ما يكون ملهماً لمعظم الثورات.
بعدها سرعان ما انتقل الحراك السلمي إلى مرحلة حراك مسلح كردّ فعل على فشل النظام السوري بالتعامل مع الانتفاضة الشعبية. ما الذي أوصلنا إلى هذه الحال؟. بالتفكير قليلاً سنجزم أنّ أسّ الدمار السوري الشامل، في الأساس، هو فقدان الوطنية السورية لدى جمهور النظام والمنافحين عنه بالسلاح والطائرة، ولدى جمهور الثورة الذين تجاوزت بندقيتهم أهداف السوريين وطموحاتهم، مع جزء كبير من نجوم النخب الذين كانت الثورة وسيلة لبناء طموحاتهم الشخصية!. وهكذا تعامل السوريون بعد عام 2011، على ضفتَيّ الثورة والنظام، بالمنطلقات نفسها، على الرغم من اختلاف التجليات، فهناك كان التعبير عن عدم الانتماء لسوريا من منطلق “الأسد أو نحرق البلد”، وهنا كان التعبير غير المنتمي إلى سوريا: “أنا ومن بعدي الطوفان.. إذا ما خربت ما رح تعمر.. ولست أنا وحدي من سرق.. وأتحدى فلان المعارض السياسي أن يكشف من أين مصادر ثروته”…إلخ، وعشرات العبارات التي تدلّل على أزمتنا الوطنية والسورية العميقة التي لا بدّ كانت ستقود إلى كلّ هذا الخراب.
إذا كان ابن خلدون يجعل الترف السبب الأبرز في سقوط الدول، عن طريق النخبة الحاكمة التي ترفل في النعيم ناسية أو متناسية آلام شعوبها، فتستقوي عليهم بالقوة المسلحة كلما دعت الضرورة لإسكاتهم، فإنه يؤكد أنّ الاستبداد و”الانفراد بالمجد” هو السبب الثاني الذي يؤدي للسقوط. وفي الحالة السورية سنكتشف أنّ نموذج “الدمار المديد” فريد لشدة تعقيده وخصوصيته، والذي بدأ عند الانتقال من واقع “الهوية الوطنية” إلى واقع “هويات النواحي السورية”، وهو أخطر النماذج، ما سيجعل مهمة أية حكومة انتقالية قادمة، في ظل أيّ حلّ سياسي أو غير سياسي، غايةً في الصعوبة، بعدما باتت المناطق السورية بمثابة جزر منفصلة غير مرتبطة عضوياً بأية إدارة مركزية.
في المقابل، وأكثر من أي وقت مضى، يدرك الشعب السوري جيداً _ وبعد كلّ ما واجهه من تحديات ومخاطر مصيرية، هذا إذا ما استعاد وحدته الوطنية المتشظية، وإذا ما وضع قطار الحل السياسي الوطني وفق قرارت الشرعية الدولية على السكة الصحيحة، وإذا ما بوشر بعملية إعادة الإعمار والتنمية_ يدرك أنّ عودة سوريا كدولة حرة ديمقراطية موحدة إنما يحتاج إلى كنس الدمار في الأرواح قبل الطرقات، وغسل القلوب قبل غسل الغبار عن وجه هذه البلاد المتعبة. وهذا بطبيعة الحال سيحتاج الى عقود طويلة من الزمن. طبعاً إذا كان المطلوب بناء نظام ديمقراطي تعددي حقيقي، لا تغيير سلطة بسلطة أو تبديل أشخاص ومجموعات بأشخاص ومجموعات أخرى.. في السياق يقول الشاعر مظفر النواب: (أنا واقف والخرائب تركض.. والطلقات تزيد الصفيح المثقب.. فقراً ومذلة.. وأقول أنا الحقّ لا أستحي.. إن القبور الفقيرة كانت على الجهتين…). هذه القبور التي اتسعت لكلّ السوريين دون استثناء، لم تعد تنفع حقيقة إلا لصناعة أفلام الإثارة والإمتاع كي يتلذذ العالم “مجدداً” بزبدة الألم السوري.
يزيد الطين بلّة آخر بدعات النظام السوري “البديعة”: وسط الدمار السوري المديد، حيث لا شوارع ولا بيوت ولا مدن يُستدل عليها، وفي خطة جديدة ومفضوحة لنهب السوريين، يفرض مجلس محافظة دمشق على وسائل النقل دفع كلفة تركيب نظام (الجي بي إس)، بكلفة 350 ألفاً، و2500 ليرة سورية كاشتراك شهري، بينما تتفاقم أزمة النقل والمواصلات في مناطق سيطرة النظام والتي تؤدي إلى شلل في الحركة في معظم الأحيان. ولنزد من الشعر بيتاً، يأتي الخبير العسكري الروسي ألكساندر إيفانوفيتش زيلين، رئيس مركز دراسة المشكلات التطبيقية العامة للأمن القومي ليصرّح بثقة مطلقة: “إنهم يرغبون في إنشاء نظام ملاحة للسيارات في سوريا، هذا يدلّ على أنّ سلطات هذا البلد تفكر بالمستقبل. أعتقد أنهم سوف يتمكنون من التعامل مع هذا الوضع، لأنه لن تكون هناك مشكلات لا يمكن التغلب عليها”.
عبير نصر _ تلفزيون سوريا