تبذل إيران، هذه الأيام، جهوداً حثيثة لترسيخ نفوذها الاقتصادي في سوريا، استعداداً ربما لاستحقاقات تتعلق بترسيم هذا النفوذ ببعده الأمني – العسكري، في اتفاق إقليمي – دولي محتمل. في هذه الأثناء، لا يبدو أن الشائعات عن دورٍ لحليف إيران الأبرز داخل النظام، ماهر الأسد، في تدمير واحدٍ من أبرز محاصيل سوريا الزراعية، خدمةً للإيراني، مجرد صيدٍ في الماء العكِر.
فحكومة النظام، التي رضخت –شكلياً- لمطالب مزارعي وتجار الحمضيات، بضرورة توفير دعمٍ نقدّي، لعملية التصدير، حددت موعد تسليم هذا الدعم في نهاية شهر حزيران/يونيو القادم. مما يعني أن جزءً كبيراً من مزارعي الحمضيات لموسم 2021 – 2022، لن يستفيدوا من هذا الدعم، خاصةً من قاموا بـ “تضمين” أراضيهم –بيع محصولها مسبقاً- منذ أيلول/سبتمبر الفائت.
هكذا تدفع حكومة النظام، مزارعي الحمضيات في الساحل السوري، دفعاً، نحو اجتثاث أشجار واحدة من أهم الزراعات المُثمرة في سوريا، لصالح زراعة بديلة، هي التبغ. وليس ذلك بدافعٍ من إغراء العملة الصعبة التي يجلبها التبغ لخزينة النظام فقط، بل بدافعٍ آخر، يتعلق بمصلحة الاقتصاد الإيراني، وصادراته إلى السوق العراقية تحديداً.
فخسارة الحمضيات السورية للسوق العراقية، التي تمثّل المجال الحيوي لهذا المنتج الزراعي، قد تكون الضربة القاضية لزراعة الحمضيات في الساحل السوري، بعد أن خسرت معظم أسواقها في الخليج، بسبب تدني نوعية المنتج السوري، نتيجة قلة الأمطار.
وتوالت في السنوات الخمس الفائتة، الضربات التي نالت من زراعة الحمضيات بسوريا. وكانت أبرز أسبابها، ضعف أسواق التصدير. حتى أن المحصول لم يعد يغطي تكاليف الإنتاج. ذلك أن الإنتاج المحلي من الحمضيات ضُعف الاستهلاك المحلي منها، مما يعني أن عنصر التصدير هو الأساس في استمرار هذه الزراعة.
وتتشكل الصدمة، حينما يجيبك أصحاب الشأن عن سبب تراجع صادرات سوريا من الحمضيات إلى العراق، في هذا الموسم. إذ يقولون لك إن الحمضيات الإيرانية والتركية، أرخص من السورية، في الأسواق العراقية. وأن الحمضيات السورية في العراق باتت تُهزم من نظيراتها القادمة من كل أصقاع الأرض، حتى تلك التي تأتي من جنوب إفريقيا.
ذلك اللغز الذي يجعل أسعار الحمضيات السورية أغلى من كل نظيراتها في السوق العراقية، لا نجد تفسيراً مقنعاً له، في التصريحات المباشرة للمعنيين بهذه الزراعة، والتي تنشرها وسائل إعلام رسمية أو شبه رسمية. فالحديث عن ارتفاع كلفة اليد العاملة السورية، قد يكون مثيراً للسخرية. فهل تكلفة اليد العاملة السورية أعلى من نظيرتها التركية مثلاً؟! بطبيعة الحال، تقدم التصريحات المنشورة في الإعلام الموالي، تفسيرات أخرى لهذا اللغز، من أبرزها، ارتفاع تكاليف مولدات الطاقة الخاصة، بسبب انخفاض دعم الوقود في البلاد.
لكن كلمة السرّ في تفسير هذا اللغز، قد نجدها في ما بين سطور تلك التصريحات. إذ أجمع كل من تحدث من تجار أو مسؤولين بهذا الشأن، على أن ارتفاع تكاليف النقل، يشكّل سبباً رئيساً لأزمة تصدير الحمضيات إلى العراق. وألقى معظمهم باللائمة على تكاليف نقل الحمضيات المُصدّرة، من سيارة إلى أخرى، على الحدود العراقية. لكن، هل قال المعنيون بهذه الزراعة، كل ما يعرفونه بهذا الشأن؟ أم أرادوا من المتابعين تقصّي ما بين سطور تصريحاتهم؟
في منشور “فيسبوكي”، يعود إلى منتصف شهر تشرين الأول/أكتوبر الفائت، أشار رجل الأعمال السوري المعارض، فراس طلاس، إلى دورٍ لـ ماهر الأسد، شقيق رأس النظام السوري، في التضييق على مزارعي الحمضيات بالساحل السوري. وقال وفقاً لمعلومات نشرها -على ذمته- إن ماهر أوعز لحواجز الفرقة الرابعة برفع قيمة الإتاوات التي تدفعها برادات شحن الحمضيات. موضحاً أن هدفه من ذلك، ليس زيادة الريع المالي لحواجز الفرقة العسكرية التي تتبع له، بل لمنع الحمضيات السورية من منافسة نظيرتها الإيرانية في السوق العراقية، نظراً لبدء موسم الحمضيات في إيران.
بطبيعة الحال، كان يمكن تجاهل منشور فراس طلاس، هذا، لو لم تتفاعل أزمة تصدير الحمضيات السورية إلى العراق، في الشهر التالي. ولو لم تُشر بعض تصريحات تجار الحمضيات، إلى مسؤولية الإتاوات غير الرسمية، في زيادة تكاليف نقل شحنات التصدير عبر الأراضي السورية ذاتها، قبل أن تصل إلى الحدود العراقية. تلك التصريحات نجدها تحديداً، في صحيفة “تشرين” الرسمية التابعة للنظام، في تقرير تناول هذه القضية، قبل 10 أيام فقط.
إذ يُفصّل أحد تجار الحمضيات في سوريا، تكاليف شحن البراد الواحد إلى العراق، والتي تصل إلى أكثر من 18 مليون ليرة سورية، مشيراً إلى أن التاجر يدفع حوالي 2300 دولار (أكثر من 8 مليون ليرة سورية)، كتكلفة لنقل شحنة الحمضيات من اللاذقية إلى معبر البوكمال على الحدود العراقية. ويشير صاحب التصريح إلى أن هذا المبلغ يتوزع إلى ضرائب تحت مسميات عدة، بعضها رسمي. وهنا يجب أن نضع عدة خطوط تحت تعبير “بعضها رسمي”. فـ “غير الرسمي” منها يُقصد به تلك الإتاوات التي تُدفع على حواجز الفرقة الرابعة. فكما تنال تلك الحواجز من النشاط الصناعي في مدينة حلب خدمةً لمصالح حلفاء إيران من تجار المدينة، تنال أيضاً من موسم الحمضيات بالساحل السوري، خدمةً للصادرات الإيرانية في السوق العراقية.
ومع تشجيع حكومة النظام على استبدال زراعات حيوية، كالزيتون والتفاح والحمضيات، بزراعة التبغ، عبر مضاعفة أسعار شرائه من المزارعين، لن نُفاجأ إن تحولت سوريا، في المدى المنظور، من دولة مُصدّرة للحمضيات، إلى مستوردٍ لها. فهذا ما حدث في يومٍ ما، مع القمح. حتى قبل العام 2011، -كي لا يلقي أحد باللائمة على خروج الجزيرة السورية عن سيطرة النظام-، إذ تحولت سوريا إلى مستوردٍ للقمح لثلاث سنوات متتالية قبل العام 2011، نتيجة السياسات الاقتصادية القائمة على تقليص الدعم للمزارعين، في تلك الحقبة.
وفيما تسعى الحكومات الرشيدة في العالم، إلى تقليص فاتورة الاستيراد من الخارج، يتجه النظام نحو مفاقمتها. فالقمح الذي يُثقل استيراده العبء على ميزانية الحكومة، لن يكون وحيداً بين المزروعات التي ستضطر سوريا لاستيرادها من الخارج قريباً، بعد أن كانت من أبرز مُصدّريها. وذلك خدمةً لميليشيا محلية يقودها شقيق رأس النظام، وخدمةً لحليفته إيران. إلى جانب المسؤولية التي تتحملها السياسات الاقتصادية قصيرة النظر التي تعتمدها حكومة بشار الأسد.
إياد الجعفري _ المدن