يعتمد أي صراع كالصراع السوري على ميزان قوى معيّن. وأي خلل فيه، إما أن يحسمه لصالح مالك القوة، أو يطيل أمده، ويفاقمه. في الصراع السوري، قوة الحق مصحوبة بحياء وتردد وغياب إرادة من “داعمي” حق الشعب السوري في الحرية والديمقراطية والأمان والحكم الرشيد جعلت هذا الصراع يمتد إلى حد التعفن.لا بد أن الخلل بميزان القوى في الصراع السوري قد أسهم بتمدد المأساة السورية؛ وخاصة عندما تمَّ الإقرار بأن “الحل السياسي أو الدبلوماسي” هو المخرج الوحيد.
وفي هذا الصدد، كانت هناك جملة من القرارات الأممية التي توصل إلى هكذا حل؛ إلا أن منظومة الأسد وحُماتها لم تؤمن لحظة بالحل السياسي، فتلظوا به ظاهرياً، وتابعوا نهج القوة العسكرية ضامنين تفوّق القوة النارية على القوة القانونية والأخلاقية الضعيفة من جانب أصحاب القضية السوريين، والقوى المترددة فاقدة الإرادة “الداعمة” لقضيتهم العادلة. رفعت تلك القوى، التي سمّت نفسها “أصدقاء الشعب السوري”، المسؤولية عن ذاتها باللجوء إلى الأمم المتحدة؛ وكانت تدرك تماماً أن هذه الهيئة الدولية وتحديداً القرار الأممي في مجلس الأمن مشلول بفعل الفيتو الروسي والصيني.
تلك القوى فاقدة الإرادة “عمداً ربما” تجاه إنقاذ سوريا من براثن الإجرام الأسدي وأعوانه لم تكن تفتقد الإرادة والتجييش على ما سمّته الإرهاب متمثلاً بداعش؛ وهي تدرك تماماً أنه إذا كان مِن إرهاب في سوريا، فهو إرهاب المنظومة الأسدية وداعميها المرتبطين بداعش والمستخدمين لها.
وقد يكون راقها ربما الاكتفاء بتسجيل النقاط السوداء على روسيا لحمايتها للإجرام؛ فهي من جانب تراكم ملفات وأوراق إدانة سياسية لروسيا، التي ربما لا تعير ذلك اهتماماً، ولا تقيمه من أرضه؛ ومن جانب آخر تزيح عن كاهلها مسؤولية عالمية تجاه بلاء وابتلاء ملايين السوريين بهذا الوباء، وتجاه حقوق الإنسان وحمايته الحقيقية، التي طالما تغنَّت بها.يتذكّر السوريون خط أوباما الأحمر، وعندما وضع يده على آلة الجريمة، لا على الفاعل.
يتذكّرون كيف استمر النظام باستخدام آلة الجريمة ذاتها “السلاح الكيماوي”، /وهذا موثَّق/، وكيف جرّب الروس مختلف صنوف الأسلحة؛ يتذكّرون تغوّل ميليشيات إيران وحرسها الثوري بالدم والحقوق السورية، وكيف وضعت كلتاهما يدهما على مقدّرات سوريا. أما ما يتذكرونه من “أصدقاء الشعب السوري” فهو الإنشاء والفلسفة و”المساعدات الإنسانية”.
وحتى اللحظة لا يلحظون من عهد بايدن إلا النهج ذاته.لم تحجب تلك القوى الدعم الكفيل بحسم الأمور في سوريا لصالح الشعب وقضيته في الحرية والحكم الرشيد مستنداً إلى القرارات التي أصدرها مجلس الأمن؛ بل خنقت تركيا، الجهة الوحيدة المضطرّة لمساندة الشعب السوري- ووضعتها في ممر إجباري لتلجأ إلى روسيا.
كان بإمكان الاتحاد الأوروبي مثلاً استصدار قرار(ات) على شاكلة قانون قيصر يستهدف روسيا وإيران اللتين لا تقلان إجراماً عن منظومة الاستبداد بدمويتهما؛ وخاصة أن لديهم توثيقات عن تلك الجرائم لا تقل عمّا لدى أميركا.ومن جانب آخر كبّلت بلاد عربية كان بإمكانها أن تحدث الفارق في خيار القوة. وها هو بعضها لا يجد أمامه من خيارات إلا إعادة التواصل مع المنظومة الاستبدادية. ويبدو أن كل ذلك لم يتم عبثاً، أو بسبب فقدان الإرادة بوضع حل للأزمة، وإنما لأغراض تكشفّت مراميها الآن تماما؛ وتحديداً قوة الفيتو الحقيقي الذي تمارسه إسرائيل على الجميع.والآن يتجدد الحديث عن الاتفاق النووي الإيراني – الغربي، والذي ذهبت القضية السورية فيه “فرق عملة” عندما كان أوباما رئيساً للحلف الغربي وعلى رأس حلف “أصدقاء سوريا”، والسيد بايدن نائباً له.
وفي عهد الأخير، الذي حدّد نهج حملته بوقف التصعيد والتوتر العالمي، لا تزال إيران أكثر تغولاً واستشراساً تغرس مخالبها في جسد محيطها وخاصة على الساحة السورية. وما ينطبق على إيران، ينطبق تماماً على روسيا؛ فالفصل بينهما إما وهمٌ وضحالة تفكير، أو جزء من استخدامهما المقصود في دمار المنطقة واستعبادها ليسهل الانقضاض النهائي عليها.
من جانبه، وبعد الحرب التي شنّها النظام وأعوانه على كل مَن يعارضه، ها هو يشن حرب إفقار وإذلال ضمن حاضنته التي تعاني اقتصادياً واجتماعياً ونفسياً أكثر مما يعانيه مَن هم خارج سيطرته. يخطىء عمداً أو غفلة أولئك الذين يقولون إن الحرب انتهت في سوريا، لأن منظومة الاستبداد تعيش عليها، أكان عبر استمرار الهجمات والقصف على الجنوب والشمال كما يجري الآن، أو جعل الحياة – حيث يوجد الروس والإيرانيون- لا تطاق بالنسبة للإنسان السوري؛ الذي أقصى طموحه الآن ترك هذا الوطن بأي شكل.
إذا كانت تلك القوى الغربية صادقة وحريصة على حقوق الإنسان كما تعلن وراغبة بجعل العالم أقل توتراً، فالطريق واضحة. عليها أن تعلم أن بوتين ليس جزءاً من الحل بل الجزء الأكبر من المشكلة السورية. والجرائم التي ارتكبتها روسيا بحق السوريين وبلدهم لا تقل عن جرائم النظام؛ فإن تعذَّر سوق النظام إلى محكمة “لاهاي”، بسبب فيتو روسيا، لا بد من العمل خارج مجلس الأمن، وإطلاق محكمة خاصة بجرائم الحرب في سوريا. فهل صعب مثلاً ممارسة “الولاية القضائية العالمية للمحاكم الجنائية” في سائر الدول المعنية بحقوق الإنسان والتي تعبر عن وقوفها إلى جانب السوريين.
يدرك مَن يتحدث بدعم قضية السوريين كم هو متجذر مفهوم القوة لدى منظومة الاستبداد وداعميها، وأن الروس ما خرجوا من أفغانستان إلا بالقوة، وأن الأمر ذاته ينطبق على إيران ومنظومة الاستبداد التي اختارت الحديد والنار لقمع السوريين، وأن هؤلاء السوريين الذين أرادوا استعادة بلدهم جاهزون عند توفر ما يلزم لتحرير بلدهم من الطغاة. وهذا أمر مبرر وأخلاقي؛ فكما استجلب نظام الاستبداد آلة حرب الغزاة الروس والإيرانيين ليستمر بالقمع وأخذ سوريا رهينة؛ مبرر لطلاب الحرية الحصول على الدعم لإسكات آلة الحرب بالقوة وتحرير سوريا.
أخيرا، يبدو أن تلك القوى الغربية لم تتعلّم من دروس التاريخ. ليتها ترجع قليلاً لعام 1938عندما التقى رئيسا وزراء بريطانيا وفرنسا مع هتلر، وعقدا معه معاهدة ميونخ في محاولة لاحتواء دكتاتورية ألمانيا النازية، وتجنب اندلاع حرب عالمية أخرى؛ ولكنهما أخطأا تفسير عقلية الدكتاتور التي لا تسأل “لماذا؟”، بل “لم لا؟!.” يبدو أن التاريخ يكرر نفسه مع البوتينية والخامينائية والأسدية. وإن لم يحصل هذا الفهم والاستدراك، فنار دكتاتورية الغزاة ستصل إلى كل مَن تقاعس أو خادع أو توانى في نصرة هذا الحق البائن.
يحيى العريضي _ تلفزيون سوريا