بنظرة سريعة على الواقع الميداني الحالي في سورية، نشاهد جملةً من التفاهمات أو شبه التفاهمات، حول ما يجري على الأراضي السورية بين عدد من الأطراف الظاهرة بجلاء على مسرح الأحداث، مثل روسيا وإيران وتركيا، وبين أطراف تعمل من خلف الكواليس كالولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول العربية. ولعلّ ما يجري في درعا، من تجاذبات بين أهل درعا ورجالاتها، وبين المحتل الروسي ومن خلفه عصابات الأسد والميليشيات الإيرانية المتغلغلة في الجنوب السوري، هو خير مثال على تلك التفاهمات التي أبرمتها الأطراف الخارجية، وقد تعثر تطبيقها بسبب صمود أهلنا في درعا وتمسكهم بأرضهم، فمنذ مؤتمر جنيف الأول، كان هناك تفاهم روسي أميركي حول سورية، على الرغم من وجود عدم ثقة مطلقة بين الطرفين، وهذا ما دفع الروس إلى التدخل العسكري وعقد مؤتمرات آستانة وسوتشي التي ساعدت الأسد في استعادة أغلب المناطق المحررة، تحت نظر العالم أجمع ومسمعه، خاصة الولايات المتحدة الأميركية الصامتة عن تلك المؤتمرات ونتائجها، ولولا الرضا الأميركي لما نجح الروس في عقد تلك المؤتمرات وإبرام صفقات مع ما يسمّى معارضة، تلك المعارضة التي تنازلت عن دماء الشباب السوري التي أراقها الأسد والروس والإيرانيون الذين ثبت أنهم استخدموا تلك المعارضة، مقابل مكاسب شخصية وحزبية رخيصة لتحقيق هدفهم، وهو إعادة إنتاج الأسد من بوابة استعادة الأراضي التي حررها الجيش الحر في السنوات الثلاث الأولى من الثورة، ولهذا لا يمكن أن نقول إن الروس عملوا منفردين في القضية السورية، بمعزل عن الأميركيين الذي كان صمتهم دليلًا على رضاهم عمّا يحدث على الأراضي السورية، بل ظهر أن هناك تفاهمات سرية، تُترجم بفعل روسي إيراني وصمت أميركي أوروبي عربي.
هذه المواقف لم تكن في بداية الثورة، فالولايات المتحدة الأميركية سعت بكل جهودها لتحقيق شيء من التغيير في سورية، على الرغم من الفيتو الروسي المتكرر في أي قرار لمجلس الأمن الدولي، لكنّ تغيّر الموقف الأميركي من الثورة السورية جاء لسببين: الأول وقوف الدول العربية مع نظام الأسد منذ البداية؛ والسبب الثاني الجوهري نجاح العرب وإيران ومخابرات الأسد في إلصاق تهمة “الإرهاب” بالثورة السورية، من خلال تبنيها ودعمها اللامحدود للفصائل الراديكالية، ومن هنا خشيت أميركا وحلفاؤها أن يتكرر سيناريو العراق وأفغانستان في سورية التي تتمتع بموقع جيوسياسي استراتيجي، من حيث وجودها على حدود الكيان الصهيوني، وكونها صلة الوصل الجغرافية بين أوروبا والدول العربية والخليجية خاصة.
ومنذ جنيف واحد، سعت أميركا وحلفاؤها لجرّ المعارضة إلى التفاوض مع الأسد، بحجة أنهم لن يسمحوا بانهيار الدولة السورية، وأن تغيير النظام ممكن لكن من دون السماح للمنظمات الإرهابية بمسك زمام أمور الدولة السورية، وتحدثوا عن سلطة انتقالية يرضى بها الطرفان الروسي والأميركي، وهذا -برأيهم- هو الحل الأنسب للقضية السورية، وعندما بدأ نظام الأسد بالانهيار، بداية عام 2013؛ كنتُ أحد المدعوين لوضع خطط وآليات عمل لملء الفراغ الذي يمكن أن يحصل عند انهيار النظام، لكن إيران والعرب كان لهم رأي آخر، حيث استخدموا كلّ ما يملكون لمنع سقوط نظام الأسد، من خلال دعم إيران اللامحدود للأسد بالعتاد وعناصر الميليشيات، ومن خلال دعم الدول العربية للفصائل الراديكالية، بشرط عدم المساس بالنظام ودخول دمشق أو المدن التي يسيطر عليها الأسد، وفي الوقت نفسه، تم تقديم الدعم المادي للأسد لاستمرارية بقائه في السلطة، فكانت معركة القصير البذرة الأولى التي أنتشت ذلك الدعم، حيث اقتحمت قوات “حزب الله” اللبناني بلدة “القصير” الحدودية، ودمرتها تدميرًا كاملًا، ونكلت بسكانها وهجرتهم من بلدتهم، وكانت هذا المعركة بداية طريق التغيير الديموغرافي في سورية، وامتدت المعارك إلى حمص، ومن ثم إلى بقية المناطق المحررة؛ فالدخول الإيراني المركّز والدعم العربي للفصائل الجهادية، وقطع الدعم عن الجيش الحر، وتعويضه بدعم جماعة الإخوان المسلمين التي اشترت كثيرًا من قادة فصائل الجيش الحر، من أصحاب النفوس الرخيصة.
كل هذا أدى إلى منع سقوط الأسد في تلك المرحلة من مراحل الثورة، وعلى الرغم من كل ذلك الدعم، لم يستطع أحد من الطرفين المتصارعين على الأرض حسم المعركة؛ فقوات الأسد والميليشيات الداعمة لها والدعم الروسي، مقابل فصائل الجيش الحر الوطنية التي لم تحمل أي أيديولوجية، بل كان همَّها وطنٌ اسمه سورية، يعيش فيه كل السوريين، على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم العرقية والطائفية والدينية والقومية، وخوفًا من أن يحسم أحد الطرفين الأمور، دخل الروسي -بالاتفاق مع الأميركان- كعامل مرجّح، وتخاذل الأميركيون في دعم المعارضة، وفي الوقت نفسه، ساقتهم روسيا، برضًا أميركي، إلى مؤتمر آستانة الذي تمخّض عنه تقسيم المناطق المحررة، وتسليمها تباعًا إلى الأسد، ومنع الأسد من تحقيق الانتصار الساحق، بانتظار القضاء على التنظيمات والجماعات الإرهابية، وعندئذ يمكن تغيير رأس النظام وجزء من منظومته الأمنية، وإعادة هيكلة الجيش والأمن، وفق منظور متفق عليه دوليًّا وعربيًّا وإقليميًّا، وهنا تشكل التحالف الدولي لمحاربة (داعش)، وبالذريعة ذاتها، دخلت روسيا، لكنها لم تقاتل إلا الجيش الحر وحاضنته الشعبية؛ فاجتمع على قتل السوريين عصاباتُ الأسد والميليشيات الإيرانية والروس والأميركيون وتنظيم “داعش”، ومن جهة أخرى الفصائل الراديكالية الأخرى التي بدأت ممارسة الإرهاب على حاضنة الثورة، بطرق وأساليب مختلفة، هذا كله يأتي في إطار الحل اللاأخلاقي، أو كما يُسمّى الحلّ القذر الذي ما يزال مُسْتَمِرًّا حتى الآن، وهدفه الآن تركيع درعا وشعبها، أو طردهم من بيوتهم وأراضيهم، لمنع وجود أيّ فصيل غير متحكّم فيه، يمكن أن يشكل تهديدًا للسلطة الانتقالية المنتظرة، ولو تمّ التغيير الديموغرافي الذي يبدو أنه يُسعد أميركا والروس قبل إيران، ولهذا نشاهد صمت الإدارة الأميركية المطبق عمّا يجري في درعا، وعما تقوم به روسيا من نقض للاتفاقيات التي تعقدها مع ممثلي أهالي درعا، بحجج واهية، وبهذا يمكن أن نعتبر أن الروس ماضون في تثبيت حكم الأسد، بكل الطرق.
إلا أن الأميركيين -كما يبدو من خلال تصريحاتهم- لن يقبلوا بذلك، وسيقومون بالضغط على الروس بطرق عدة، من أهمها منع إعادة الإعمار، ومنع استقرار الوضع في سورية، وعدم الاعتراف بشرعية نظام الأسد، والأهمّ محاسبة النظام على الجرائم التي ارتكبها، وعلى رأس القائمة استخدامه الكيمياوي ضد الشعب السوري، بالإضافة إلى ملفات قانون سيزر الذي صدر بناء على الصور التي تؤكد الانتهاكات الصارخة في سجون الأسد وأجهزة مخابراته، وبالتالي؛ سيَقبل الروسي مكرهًا بالعودة للقرارات الدولية التي تنصّ على تشكيل هيئة حكم انتقالي.
وهذا يعني أن الخطة تسير بشكل رتيب نحو سيطرة نظام الأسد على الجنوب السوري بالكامل، بعد أن فرض سيطرته جُزْئِيًّا، من خلال اتفاقيات آستانة وسوتشي، وسيتم سحب السلاح من أهالي المنطقة، حتى لا يبقى أيّ سلاح بيد أي جهة يمكن أن تهدد من سيتسلم مهمات المرحلة الانتقالية، بعد ذلك بمدة لن تتجاوز شهرين، سيتم التركيز على المناطق المحررة من إدلب، ليُنفذ السيناريو نفسه، وكلّ من يصمت عن ذلك سيكون صمته دليلًا على موافقته على هذا السيناريو، وهناك ثلاث مؤشرات تدلّ -بشكل أو بآخر- على رضا الصامتين في الشمال عمّا سيجري في المستقبل القريب في المحرر؛ وأولهما السماح بفتح معبرٍ بين إدلب ونظام الأسد؛ والثاني منع قيام أي تظاهرة لنصرة درعا؛ والثالث عدم التحرك وفتح الجبهات مع نظام الأسد لمساندة درعا وتخفيف الضغط عما يجري فيها. والأيام والأسابيع القادمة ستُثبت صحة هذا أو تنفيه، أما الأميركان، فسيجدون حلًّا ما يُمكّن نظام الأسد من السيطرة على المنطقة، وأعتقد أن سيناريو دخول القوات الروسية مع قوات من “الفيلق الخامس” هو الأرجح تنفيذه، نظرًا لنجاحه في باقي المناطق التي سُلّمت إلى النظام، وهنا لن يُسمح ببقاء أي فصيل يمكن أن يُهدد هذه الاتفاقيات، وسيعود نظام الأسد تدريجيًّا إلى الشمال بالكامل، والصامتون عن هذا، مما يسمى الجيش الوطني، ستتم مكافأتهم بدمجهم في جيش الأسد لاحقًا، أما الجزء المتبقي من سورية، الذي تسيطر عليه “قوات سوريا الديمقراطية/ قسد”؛ فالأمر سيبدأ من لحظة انسحاب القوات الأميركية من سورية، وهو المظلة العسكرية الحقيقية لـ (قسد) التي ستجد نفسها مكشوفة وغير قادرة على مواجهة مخطط تلك الدول، ولهذا يمكن أن تعقد صفقةً ما مع الأسد تحفظ بها ماء وجهها وتحقق لها جزءًا من الشعارات التي نادت بها، خاصة أن أميركا لم تعِد (قسد) بكيان مستقل، بل كان دعمها العسكري ينصبّ فقط لمحاربة (داعش)، وعند انتهاء تلك المهمة، ستتخلى أميركا عنها، مقابل تفاهمات بينها وبين تركيا، تقضي بمنع قيام كيان كردي على الحدود الجنوبية لتركيا، فتركيا هي الأهمّ، بالنسبة إلى أميركا، من حيث المصالح المشتركة بينهما وبعض القضايا الإقليمية التي تقوم تركيا بدور فعّال فيها، ففي الحلّ القادم لن يكون هناك كيانات مستقلة، وستكون هناك دولة مركزية، على الأقل عَسْكَرِيًّا وَأَمْنِيًّا وَقَانُونِيًّا، يمكن أن يتخللها إدارة ذاتية محلية فقط، وبذلك ستبسط قوات الأسد سيطرتها على كامل الأراضي السورية، وفي تلك المرحلة، ستكون سورية جاهزة لمرحلة انتقالية، ما تزال معالمها النهائية غير واضحة حتى الآن، وهذا يعتمد على صدق روسيا مع المجتمع الدولي، ومدى تأثير الضغوط الأميركية على الروس، بالإضافة إلى مدى تحقيق إيران للهدف الذي تدخلت من أجله في سورية، والضغوط التي يمكن أن تمارس عليها للانسحاب من سورية، ويبدو أنّ إيران شعرت بهذا الآن، ولهذا طلبت إدراج الملف السوري ضمن ملفات مفاوضاتها مع الأميركيين، أملًا في تحقيق مكاسب مقابل انسحابها من سورية، وباعتقادي؛ لا يمكن أن يقتنع الأميركي والإسرائيلي بأن الاستقرار في سورية والمنطقة سيتحقق في ظل وجود القوات الإيرانية وميليشياتها في سورية، التي ستكون ورقة قوية ضمن مجموعة من الأوراق التي تعتمد عليها إيران في غزوها لسورية، وأعتقد أنه لا يمكن إخراج إيران من سورية بالقوة العسكرية، لعدم وجود قوة محلية يمكن أن تواجه القوة الإيرانية على الأرض، سواء أكانت قوة محلية أم قوة دولية يمكن أن تُشكل لهذه الغاية، في ظل غياب الرغبة الدولية والأميركية بذلك، ولهذا لا يمكن التأثير على الميليشيات الإيرانية في سورية إلا من خلال إعادة المهجّرين إلى ديارهم، ليكونوا قوة بشرية، والبدء بأعمال المقاومة الشعبية الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والأمنية، بالإضافة إلى الممارسات اليومية للمواطنين السوريين، وتطويق ومحاربة الأعمال الإيرانية التي يمكن أن ترسخ وجودها على الأرض السورية، ذلك بأن تطهير سورية من الإيراني ليس عملية سهلة بالمطلق، وتحتاج إلى زمن قد يطول أو يقصر، ويعتمد ذلك على الخطط التي يمكن أن يضعها وينفذها السوريون أنفسهم، بعد عودتهم إلى ديارهم، وهي عودة مرتبطة بعددٍ من الشروط لا يمكن تجاوزها، وأهمها تغيير رأس النظام، وإجراء تعديلات جوهرية على المؤسسة العسكرية والأمنية، لتغيير المناخ الذي يعيش فيه السوريون، ويمكن أن يبدأ التغيير من فرض هيئة حكم انتقالية تُرضي جميع الأطراف الداخلية والخارجية، تستطيع تلك الهيئة إدارة شؤون البلاد إلى حين فرض الاستقرار الأمني وإخراج الميليشيات الأجنبية من البلاد، وعودة المهجرين إلى ديارهم، لإيجاد المناخ الملائم وإجراء انتخابات تشريعية حقيقية، يشارك فيها جميع السوريين، ومن ثم تسليم مؤسسات الدولة إلى طاقم يستطيع السيطرة على البلاد، ويقوم بمهامه الوظيفية التي يمكن أن يكون أوّلها إنشاء دستور للبلاد، يكون جامعًا للسوريين، ويعمل تحت مظلته كل السوريين، ومن ثم يمكن المباشرة بإعادة الإعمار لتنظيم المدن السورية، وفق مخططات حديثة تجاري العصر.
خلاصة القول: يمكن أن نجزم بأن الحلول في سورية ستكون من خلال هذا السيناريو الذي تحدثنا عنه، وغير ذلك سيكون مضيعة للوقت واستنزافًا لما تبقى من دماء السوريين ومدخراتهم، وهذا يجب أن يعرفه الأسد وعصاباته جيدًا، وإن إعادة الأراضي التي حررها الجيش الحر إلى سيطرة الأسد وحلفائه ليست آخر المطاف، بل هناك استحقاقات ستُفرض بالقوة، إذا لم يستجب لها رأس النظام وزبانيته، وأوّل هذه الاستحقاقات هو رحيل تلك العصابة المارقة التي دمّرت سورية، وقتلت وهجرت شعبها، وسمحت بدخول كلّ شذاذ الآفاق إليها، ليعيثوا فسادًا وإفسادًا، ويرتكبوا أبشع الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية، والتي ستكون حقبة سوداء في تاريخ سورية لا تُشبهها أي حقبة عبر التاريخ السوري العريق الممتد إلى آلاف السنين. وفي الوقت نفسه، سيضيع حُلم مَن سرق تمثيل الثورة، من أفراد وأحزاب وجماعات عابرة للحدود، في حكم سورية المستقبل التي لن تنعم بالاستقرار بوجود هؤلاء من شذاذ الآفاق والحاقدين على السوريين، والمتحالفين مع نظام الملالي في طهران ألدّ أعداء الشعب السوري، وبهذا؛ يمكن أن تطوى صفحة من صفحات الحرب القذرة التي تعرّض لها الشعب السوري من قبل اللاهثين وراء السلطة من الطرفين، وأدواتهم القذرة، كالميليشيات الإيرانية والفصائل الراديكالية التي مارست كل أنواع الإرهاب ضدّ هذا الشعب المسكين الذي خرج ليطالب بحريته وكرامته، فكان له هؤلاء مجتمعين خنجرًا مسمومًا لم يترك شبرًا في جسد هذا الشعب إلا طعنه.
خالد المطلق _ مركز حرمون للدراسات