قبل خمس سنوات تقريبا كتب أحد الأصدقاء الناشطين على صفحته على فيس بوك ما يلي: “هناك سوريون ثاروا وخرجوا بالثورة لأنهم يطالبون بالحرية، وهناك سوريون ثاروا وخرجوا بالثورة لأنهم يظنون أن نظام الأسد ترك الأبواب مفتوحة للحريات الفردية وهم بثورتهم ضده يريدون إغلاق هذا الباب”، تلك الفترة، حين كتب الصديق منشوره هذا، كان التيار السلفي في الثورة السورية يحقق انتصارات كبيرة على مستوى الانتشار والتمدد بين السوريين، وكان هناك مواقع وصفحات في العالم الأزرق هدفها الوحيد شتم كل من يعترض على تسليح الثورة وأسلمتها من السوريين، وتشويه سمعة الناشطين والثوريين السلميين، وشتم الثقافة بوصفها حالة نخبوية لا تليق بالثورة، وتكريس خطاب شعبوي سلفي جهادي سوف يتعرض كل من يخالفه أو يعترض عليه إلى إعدام معنوي شارك في تنفيذه قسم لابأس به من المثقفين (العلمانيين) تحت ذريعة عدم التعالي على الشعب الثائر والمضطهد، واحترام ثقافته المجتمعية، وكأن الشعب السوري كان طيلة حياته أصوليا وجهاديا، في أكبر إساءة تعرضت لها الثورة السورية، حين وصمها مثقفوها وسياسيوها بالأصولية والإسلامية وهم يبررون الأسلمة ويمنحون المشروعية للحركات الجهادية في نفس الوقت الذي كان فيه النظام العالمي يدرج هذه التنظيمات تحت مسمى الإرهاب، وأظن أن السوريين يتذكرون حتى الآن جملا تم تداولها على نطاق واسع: (كفوا ألسنتكم عن المجاهدين) كنوع من الوعيد لكل من يعترض على الأسلمة، أو (اللي مو عاجبوا يشكل كتيبة يسميها غيفارا ويروح يقاتل النظام)، في أكبر خديعة مورست ضد الثورة السورية عبر الترويج أن هذه الكتائب وجدت لتقاتل النظام، بينما ما فعلته هو مساعدة النظام على الفتك بمناطق الثورة وأهلها، عبر الترهيب والقمع والاحتكار وفرض أيديولوجية لم تكن من صميم المجتمع السوري، حتى في أكثر الأماكن تشددا قبل الثورة؟
بكل حال، لم تكن تلك هي الخديعة الوحيدة التي مارسها الإسلاميون، إذ لطالما تحدثوا، خلال السنوات العشر الماضية، عن مظلومية (كبيرة) تتعلق بقمع النظام للمسلمين، (ليس فقط تنظيم الإخوان) ومنعهم من ممارسة شعائرهم، ومساهمته في جعل المجتمع السوري مجتمعا منحلا ومتهتكا عبر إطلاقه الحبل على الغارب للحريات الشخصية قبل 2011، باعتباره نظاما علمانيا، كما يصفونه، أو كما يصف هو نفسه، مع أن العلمانية هي نظام سياسي، يتم فيه فصل الدين عن الدولة، من دون أن تتدخل الدولة بالشعائر الدينية مهما كانت، ودون أن تمنعها أو تعطلها، وإنما تلغي الخلط بين السياسة والدين بما يخص المجتمع، هل كان النظام السوري هكذا؟ هل كانت المؤسسة الدينية منفصلة عن الدولة والسياسة والنظام؟ ألم تكن تلك المؤسسة محمية من النظام مباشرة، بل وتعتبر إحدى أهم مؤسسات الدولة السورية؟!
ذات يوم في طريقي بالبولمان من دمشق إلى حمص أحصيت عدد المآذن في منطقة قريبة من دمشق لا تتجاوز مساحتها خمسة كيلومتر مربع، كان فيها سبع عشرة مئذنة! يمكن لأي سوري تذكر عدد المساجد التي بنيت في سوريا بعد استلام حافظ الأسد للحكم، يمكنه أيضا تذكر عدد معاهد الأسد لتحفيظ القرآن، وماذا عن تدخل الدين حتى بالشأن الثقافي السوري، (ذات يوم أصدر أحد وزراء الثقافة قرارا بمنع عرض لوحات الجسد العاري بذريعة مخالفتها لتقاليد المجتمع السوري سبقه بسنوات منع (الموديل) في كلية الفنون الجميلة)، في المقابل كم مركز بحث أنشأه النظام في معادلة مع بناء الجوامع والمساجد كي نصدق أنه علماني، كم صحيفة وكم موقعا تلفزيونيا سمح به؟ أجهض النظام كل أثر للفعل المدني في سوريا واعتقل كل من ينتمي إلى تيار ثقافي أو سياسي مدني، أو وضعهم تحت لائحة الاعتقال أو منع السفر أو الحرمان من الحقوق المدنية، والأمثلة أكثر من أن تحصى في الحقيقة.
وبداهة أن بلدا مثل سوريا فيه هذا التنوع بين مكوناته لا يمكن معه قمع الحريات الفردية، نعم، كانت بعض الحريات الفردية مسموحة، لكنها كانت تحت أنظار النظام ومؤسساته الأمنية، ما إن يستشعر النظام خطورة ما تمسه فسوف تصبح الحريات تلك مشبوهة أخلاقيا وسوف يتم إذلال من يمارسها بكل الطرق، وليس من دليل على ذلك أكثر من تشويه سمعة المثقفين المعارضين، والنساء منهن على وجه الخصوص وقت الثورة، حينما فردت مواقع إلكترونية تابعة للنظام صفحاتها لتناول سمعة المثقفين المؤيدين للثورة، وسرد تفاصيل (جنسية) عنهم، وهو ذاته ما فعلته المواقع والصفحات (الثورية) أيضا ضد المثقفين المعترضين على الأسلمة والتسليح، بحيث كان هؤلاء المثقفون ضحايا استبداد لنظام واستبداد الإسلاميين الذين خرجوا بالثورة لتطبيق الشريعة (المطبقة أصلا) على المجتمع السوري الذي اعتبروه منحلا وفاسقا، وأظن هذا ما دفع الصديق إياه لكتابة المنشور المذكور في بداية المقال.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر فإن حديث الشيخ أسامة الرفاعي في خطبته في مدينة اعزاز، ليس سوى سردية مشابهة للسرديات المتواصلة التي دأب الشيخ ومن مثله على ترديدها عن المؤامرة ضد الإسلام والمسلمين، فمع غياب سيطرة النظام عن الشمال لا بد من وجود ضحية يلقى عليها وزر ما يحدث كي تكتمل السردية المعتادة، بعد أن ضاق أهل الشمال ذرعا بالكتائب العاملة هناك، هكذا سوف تلجأ هذه الكتائب (السلطة الأمنية والسياسية في الشمال) إلى حليفها الدائم (السلطة الدينية) لتكون التعبئة الشعبوية هذه المرة هو التحشيد ضد المرأة الناشطة بدلا من النظام غير الموجود في الشمال السوري، حيث حملها الشيخ الرفاعي مسؤولية (خروج الشباب عن دينهم)، وخونها بهدوء شديد واعتبرها مجندة لصالح الغرب، طبعا لن يقول الشيخ شيئا عن ممارسات الكتائب التي يعمل معها ولا عن سلوكها وأدائها الذي جعل الناس تنفض عن كل ما يمت للإسلاميين بصلة، إذ إن وجود الشيخ مرهون بوجودها ورضاها، كما كان وجود المؤسسة الدينية مرهونا بوجود النظام ورضاه، فالإسلام للمشايخ هو دين دولة، والدين للنظم الاستبدادية (دول وميليشيات) هو حليف بالغ الأهمية، لقدرته على تخدير العقول واستفزاز الغرائز، وما هو أكثر ما يسعد النظم المستبدة ويجعلها مطمئنة لوجودها.
لم يقل الشيخ أسامة الرفاعي ما هو جديد في خطبته الأخيرة، بل هو أعاد، بطريقة هادئة، سرد منظومة تفكير (علماء الدين)، الذين لا يتحدثون عن أي شأن يتعلق بكرامة أتباعهم وتأمين عيش كريم لهم، وإيجاد حلول لأوضاعهم البائسة سواء الاقتصادية أو الأمنية، ولا ما يخص مستقبل أبنائهم، ولا يقدمون أي خطط عملية ناجعة، هم فقط يحرضون على العنف ضد المختلفين، وطبعا ضد المرأة في المقام الأول، بوصفها مثيرة للغرائز الجنسية، وكأن حياة البشر محصورة بهذه الغرائز فقط، وكأن المرأة ليست ركنا رئيسا من المجتمع السوري، ولم تكن يوما رائدة في الثورة السورية، هل يعرف الشيخ أسامة الرفاعي أن النساء الألمانيات هن من بنين ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية؟ لماذا يصرون على التقليل من دور المرأة السورية، بل ومحاولة تعطيل فعاليتها تماما عبر التحريض عليها بخطاب شعبوي غرائزي؟
رشا عمران _ تلفزيون سوريا