على نحوٍ ودّي، اشتبكتُ في نقاشٍ مع شخص صربيّ، نهايات عام 2012 على ما أذكر. سألني الرجل ما هي فكرتنا كسوريين، عن حلّ إشكالية الداخل والخارج حين يسقط نظام الأسد؟ بداية لم أفهم سؤاله جيداً، فأسهب في التوضيح بأن هناك فجوة يجب أن تكون قد نشأت، بين السوريين ممن غادروا البلد، وبين من بقوا هناك. فجوةٌ تحتاج إلى ترميم، وربما جهد شاق وطويل للعمل على ردمها. من بقوا داخل البلد سيعتبرون أنفسهم هم من ضحوا، ونالهم ما نالهم من معايشة ظروف المواجهة مع النظام، ومن ثم المواجهات العسكرية، وسوف يرون أن من غادر البلد، مهما كانت أسبابه، نجا بنفسه، وعلى نحوٍ ما، كان أنانيّاً فضل الانسحاب والعيش في إحدى جنّات الأرض، تاركاً الآخرين في جحيمهم.
يومها اعترضت على الرجل، ودفعت بكل الحجج التي تقول إنه ليست لدينا مثل تلك المشكلة، وأن من بقوا هم عائلات وأهل وإخوة من خرجوا، ويتفهمون الظروف التي دفعت أولئك، وأنا كنت منهم، إلى مغادرة البلد، فهناك خطر حقيقي كان يواجههم. انتهى النقاش بابتسامة من الرجل الذي عايش تجربة مماثلة في بلاده. ابتسامةٌ، لو شئت اليوم تفسيرها، كانت تعني، بل وتقول لي: كم أنت ساذج، ولا تعي حجم هذه المشكلة الخطيرة.
كل غربة عاشها السوريون، وكل مخاطرة خاضوها للوصول إلى بلدان آمنة، لا تعدل دقيقة واحدة، عاشها سوري وهو يستمع إلى هدير مروحية تتأهب لرمي برميل متفجر قد ينزل على بيته فيقتله مع عائلته
اليوم وأنا أرصد الوضع داخل سوريا، بكل مناطقها، كما تفعلون جميعاً على ما أرجّح، أدرك بعمق حجم المشكلة التي تحدَّث عنها الخبير الصربي. فكل غربة عاشها السوريون، وكل مخاطرة خاضوها للوصول إلى بلدان آمنة، لا تعدل دقيقة واحدة، عاشها سوري وهو يستمع إلى هدير مروحية تتأهب لرمي برميل متفجر قد ينزل على بيته فيقتله مع عائلته، ولطالما حدث هذا. بل وأكثر من ذلك، فإن معاينة الوضع المعيشي وافتقاد القدرة لدى معظم السوريين اليوم، على تأمين الحاجات الأساسية للحياة، يعمق كارثة الانقسام، بينما يستطيع من هو خارج البلد، مهما كانت ظروف حياته وحاجته للكدح ليل نهار، تأمين الحد الأدنى لمستلزماته ومستلزمات أسرته، وأحياناً ربما يصل البعض إلى حد حياة الرفاه.
كل تلك المقارنات، بين الداخل والخارج، تخلق حالة، أردنا ذلك أم لم نرد، من الوجود السوري في خندقين مختلفين، هذا إن لم نرد التفصيل، لنقارن بين من يعيش في مخيمات الأردن وبين من يعيش في العاصمة الأردنية عمّان، على سبيل المثال. وكذا بين أحوال قاطني المخيمات في الشمال السوري، وبين سكان المدن الأخرى. ويصل الشِق أبعد من ذلك ليخلق تخوماً بين من وصل إلى أوروبا وأميركا وكندا وبين من مازال في تركيا أو لبنان أو الأردن ومصر.
“ألا تظن أننا ولدنا في الزمن الرديء؟” هكذا يسأل “بلال” صديقه آدم. وبلال إحدى شخصيات رواية “التائهون” للكاتب اللبناني أمين معلوف. حين قرأت السؤال تبادر إلى ذهني، أنه في كل الأجيال وعلى مرّ التاريخ طرح البشر السؤال ذاته وبالصيغة ذاتها، معتبرين أنهم يعيشون في أسوأ الأزمنة. ونحن السوريين لسنا خارج هذا السؤال الذي يخطر ببالنا يومياً. وأقصد نحن أينما كنا موجودين، ومهما كانت ظروف حياتنا.
كانت قراءتي للرواية، في كل فصل من فصولها تأخذني للحالة السورية، رغم أنها تتحدث عن الحرب الأهلية اللبنانية. وتعبير الحرب هنا أيضاً ملتبسٌ بحسب “سميرأميس” بطلة الرواية التي تؤكد أن “الأشخاص الذين عاشوا هنا طوال تلك السنوات لا يقولون الحرب. إنهم يقولون الأحداث، ليس فقط لتجنب تلك الكلمة المخيفة.. لأن الحروب كانت كثيرة، ولم يكن المتحاربون أنفسهم، ولا التحالفات نفسها، ولا الزعماء أنفسهم، ولا ساحات المعارك نفسها. وفي بعض الأحيان تورطت فيها جيوش غريبة”.
لتصل سميرأميس إلى خاتمة أربكتني لشدّة تشابهها مع ما عاشه السوريون في بعض المراحل. فبعد أن تروي أن القذائف في بعض اللحظات كانت تسقط حولها، لدرجة أنها لم تكن متأكدة بأنها إن كانت ستظل حيّةً حتى اليوم التالي، فيما كانت الأمور هادئة على بعد عشرة كيلومترات، وأصدقاؤها يتشمسون على الشاطئ، لا يأبهون لما يجري قربهم. مؤكدة أن كل ما جرى كان أحداثاً متمايزة، ثم تختم: “الوحيدون الذين يخلطون بين هذه الأحداث المتمايزة، الوحيدون الذين يشيرون إليها في تسمية واحدة، والوحيدون الذين يُسمعوننا خطباً عن الحرب، هؤلاء الذين عاشوا بعيداً عنها”. إذاً على هذا النحو أيضاً نحن السوريين، نستخدم اليوم تلك المفردات المتباينة. بالتأكيد أنا لا أقصد هنا خلاف المصطلحات بين من يسمي ما حدث في سوريا عام 2011 ثورة أو انتفاضة، وبين من يدعوها بالمؤامرة الكونية على سوريا الأسد. لكن في كل مفرداتنا اليوم هناك شرخ يتسع أو يضيق بحكم خلاف التجربة.
حدث معنا كل ما يشبه الذي حدث لتائهي أمين معلوف اللبنانيين، فبينما يتحدث من حملوا السلاح مبكراً للدفاع عن المظاهرات السلمية بنبلٍ عن قضايا أخلاقية مفعمة بالأحلام، سنجد من خاضوا المعارك البينية بين فصائل المعارضة يتحدثون أيضاً عن الحق وصوابية ما فعلوا! ولكن هل يمكن الحديث عن النبل في الحروب؟ ربما، ولكن في حالات فردية، ولحظات خاصة، أما عموماً، فإن الحرب تُبدي كل مساوئ البشرية ومعايبها الأخلاقية. وهذا ما نراه اليوم في الحالة التي نعيش.
لن نجيد الحوار مع من بقوا، فهم لم يبقوا ليحافظوا لنا على مكان نعود إليه بكامل أناقتنا، وستكون الريبة هي المضمرة في كل حديث نخوضه هناك
إذاً متى يمكن أن نتحدث بلغة سورية مفهومة فيما بيننا جميعاً. لغةٌ لا تنطوي على سوء الفهم؟ أكاد أقول أنه حلم إبليس في الجنة، في زمننا الراهن، على الأقل. الأمر يحتاج ربما لعقود من العمل المضني ومعايشة تجارب متشابهة، بعد الخلاص من تمايز التجارب في الفترة الماضية والحالية، وتنقية الذاكرة من انحرافاتها المنحازة لكل تجربةٍ على حدة. أما اليوم، وربما حتى حين نتمكن من العودة للبلد، إن كانت عودة دائمة أو زيارات (سياحية)، فإننا لن نجيد الحوار مع من بقوا، فهم لم يبقوا ليحافظوا لنا على مكان نعود إليه بكامل أناقتنا، وستكون الريبة هي المضمرة في كل حديث نخوضه هناك، كما تلمّح إحدى شخصيات معلوف في الرواية، وسوف أعود للرواية في شقّها اللبناني وربما العربي عموماً في المادة التالية. ولكن قبل أن أختم يراودني سؤال تفرضه أجواء رواية معلوف. من هم التائهون في حالتنا السورية؟ أعتقد أن الجواب الأكثر حكمة، بل وصوابية: جميعنا تائهون. من بقي في سوريا ومن خرج منها. جميعنا نعيش حالة من التوهان النفسي والذهني وحتى اللغوي. وإن عادت سوريا لتكون وطناً لأبنائها، فأمام السوريين الكثير ليفعلوه، من أجل الخروج من هذا الفخّ الجهنمي.
مالك داغستاني _ تلفزيون سوريا