البحث عن المساواة بعيون امرأة هولندية من جذور سورية

التقيتُ بزميلة دراسةٍ لم ألتقِ بها منذ نحو عقدين، وفي حين كنا نشرب القهوة، أخذتنا الأحاديث إلى ما آلت إليه حياة زملاء الدراسة، وكيف قلبت كل واحد منا “مقلاية الحياة” على لسعاتها.

أخبرتني زميلتي أنها مرت بمرحلة الطلاق، وخشية الوصول إلى المنطقة الرمادية المتعلقة بالخصوصية، أو الدخول في عالم ذكريات، لا تريد فتح بوابته، لم أسألها عن أسباب طلاقها، غير أنها بادرتني بالقول: لماذا لم تسألني عن حكاية زواجي وطلاقي؟ وكنوع من المجاملة السورية المألوفة، قلتُ لها: بنتْ حلال، كان السؤال على رأس لساني!

ذكرتني زميلتي بتجربة زواجها، التي كانت محكومة بالشروط السورية التقليدية للزواج. غيرَ أنَّها ما إنْ حطت طائرتها في هولندا حتى أحسَّتْ أنَّ قدميْها صارا أخفّ في الحركة، وأنها تعمَّقت بدراسة القانون الهولندي، فغدت أقوى بكثير مما قبل.

بحيث أبعدت المظلة الذكورية (متمثلة بالزوج) التي كانت تحميها من قبل، عن تفاصيلها، لتستعيض عنها بمظلة قانونية، وتسند كتفها إليها، وهي مظلة لطيفة، دون أثمان باهظة، ربما تكون جافة، ومتعبة قليلاً، لكنها لا تفرض على الواثق بها التابعية، أو الاستجابة لقبضة مُحْكمة!

تقول: تابع زوجي تشجيعه لي كما كان يحدث في سوريا، خاصة أن البلد الجديد جعله أكثر حرية، متخفّفاً ما أمكن من دور “حارس الفضيلة”، لأن الرجال هاهنا يتعاملون مع النساء كـ “بشر طبيعيين”، وليس كـ “بَشر” من الدرجة الثانية، وبالتالي ليست بحاجة لحماية “ذكر”، فقوانين هولندا واقتصادها أشبعا حاجات البشر المعاشية والجسدية، مما جعل معظم أفراد الشعب متوازنين معيشياً ونفسياً في حياتهم، وفي النظر إلى المرأة.

بل قال لي: إن ممارسة السلطة الأبوية أو الاجتماعية أو المناصبيّة مشقَّةٌ، والتحرر من الأعباء والمسؤوليات العائلية، في وجه من وجوهه، حرية، وهو أقل كلفة، وإهداراً للخلايا!

وبدا لي أنه متصالحٌ مع نفسه، وقابلٌ بالدور الجديد كـ “رجل لاجئ، بنصف صلاحيات ونصف مسؤوليات”!قاطعتها: رائعٌ، قلة من البشر يستطيعون التكيف السريع مع ظروف الحياة الجديدة!

تابعتْ: كنتُ في سوريا منشغلة بأطفالي، وزوجي، ونفسي فقط، كأم، وزوجة، وشخص يناحر ظروف الحياة ليثبت جدارته، ويكمل دوره، ويتابع دراساته، وقد نلتُ منه كل تشجيع، مما مكنني من تحقيق كل ما حلمتُ به شخصياً!

ما أفقدني بوصلتي كذلك حيِّزُ الحرية الذي أتاحته البلاد الجديدة، الذي كان أكبر من مقاس أحلامي، أو مما هيأتُ نفسي له، شعرتُ أحياناً أنني ضائعة في هذا الفضاء الكبير

: إذاً ما المشكلة وما الذي حدث؟

: المشكلة، يا زميلي، أنه في هذه البلاد القوانين هي التي تحكم، والمعلومة متاحةٌ للجميع، هو تقاعدَ عن أداء دوره التقليدي في حياتي، وأخذ ينسحب تدريجياً… شعَرَ أن دوره هاهنا ومكانته أقل بكثير مما كان في سوريا.

وأنا من جهتي رسَمَت لي أنماط الحياة في هولندا أدواراً جديدة، انشغلتُ بها سنوات طويلة عنه، أو عن مشاركته، وما حقّقته هاهنا ليس من خلال شبكة علاقاته، أو رضاه، أو من خلاله، أو بالنقاش معاً كما كان يحدث في سوريا!

وما أفقدني بوصلتي كذلك حيِّزُ الحرية الذي أتاحته البلاد الجديدة، الذي كان أكبر من مقاس أحلامي، أو مما هيأتُ نفسي له، شعرتُ أحياناً أنني ضائعة في هذا الفضاء الكبير، وأخذتُ أتخبَّط يمنة ويسرة.

فـ “الحريةُ على كِبَر مشكلة”، لا هو عاد يمدُّ يديه إليَّ كما كنا من قبل! ولا أنا عادت يداي قادرة أن تحمل ذلك الرضا، الذي كانت تقوله حين كانت أيادينا تتشابك!

أنا وريثةُ تاريخٍ من ظلم الذكور للإناث، الذي أخذ يطنُّ في رأسي كآلام أمراض الديسك، التي يحركها برد الشتاء والأحمال الثقيلة، كالشقيقة التي تسبِّبُ لي صداعاً لا ينقطع!

حملتُ أحمالا كبيرة، على ظهري، فرضها عليَّ تاريخي كامرأة، تجاوزت مفهوم “المرأة القوية المستقلة” الذي أراد أن يؤطرني به زوجي، ووجدتُ أفكاري وسلوكي أقرب إلى مفاهيم “الموجة الثانية” من النسويات، وأخذتُ أقايس كل تفاصيل الحياة في ظل نظرة الرجل الشرقي البائسة للأنثى!

وحتَّم إيماني الفكري علي أن أناقش زوجي أمام أطفالي: لماذا يجب أن يحملوا كنيته فقط؟ من قال إن الكُنى يجب أن تكون للرجال؟ ولم أعد أتحرّج أن أطلب منه أن يقوم بإعداد القهوة، في الوقت الذي كنتُ أتابع الحديث مع الضيوف السوريين، ذوي التفكير التقليدي، ولم أكترثْ بعيون الرجال المستهزئة بذكورته، فأنا مقتنعة أنه لا بدّ لأي تغيير من ضحايا!

نسيتُ صورة والدي ووالدتي ووصاياهما، وبتُّ أعامله بعفوية كـ “أنثى إنسان”، فلا أخجل أن أمدّ قدميْ أمامه على الطاولة، أو أن يغسل صحنه كما أطلب من أطفالي، ولم أتردّد في التذمر من صوته العالي إبان مكالماته مع أصدقائه، بل اتفقتُ معه إلى أنني لست مضطرة لتخديم ضيوفه إنْ زارونا!

وحين كنتُ مشغولة بدراستي طلبتُ منه لشهور أن يكون مسؤولاً عن العائلة وتفاصيلها جلياً وطبخاً وتنظيفاً.وكي أحقق الإنصاف، كما يأمرنا ديننا، فقد قاسمتُه الإمامة في الصلاة في شهر رمضان، وحين كان يدعو لأهلي بجُمل أقل مما يدعو لأهله نبَّهته، ووعد أنه سيصحّح خطأه!

ولم أعد أسمح له أن يستعمل معجماً ذكورياً أمام أطفالي، يكون الإنجاز فيه للرجل فحسب، ووصلتُ إلى اتفاق معه، بعد أن قرأتُ بحثاً نسوياً عن استعمال مصطلحات غرفة النوم، إلى أن المصطلحات هنا كذلك يجب ألا تكون ذكورية!

تخليتُ عن الحجاب ومتاعبه، لم أعد أجد حرجاً أن “أتمكيج” في السيارة أو القطار، بات ما يحدّد لباسي هو ما يرتاح فيه جسدي، وشعوري بأنوثتي، وليس عيون الآخرين، أو قاعدة “العيب”، أو “الحرام”، أو وجهة نظر الزوج، باتت قناعاتي وما يريحني هي معيار الحلال والحرام، وبتُّ امرأة تحدد مفاهيمها في ظل ما تسمح به قوانين البلاد الجديدة وأعرافها ومرجعياتها!

سألتُه: ما الجدوى ألا أؤركل أمام أطفالي المراهقين، سيمرّ معهم في المقاهي أمهات يدخنّ الأركيلة؟ أما الدورة الشهرية فهي حدث فيزيولوجي شهري، ما المشكلة لو عرفت عائلتي أنني أمرُّ به وخففوا عني وتفهموا حالتي، ولماذا عليَّ أن أزيل شَعر جسدي بعجينة السكر وأتحمل آلامها، كلُّ الهولنديات يستعملن الشفرة أو الليزر، وحين رغبتُ بإزالة ترهلات بطني لم أشترط أن تجريها أنثى، الانكشافُ على الغريب هاهنا أسبابه صحية، زوجي والمجتمع كانوا يريدون أولاداً، لذلك ترهلتْ بطني!

لم أعد أكتم القهر، الذي كان يغلي في صدري، حين يسألني شخص: أنت زوجة فلان؟ بتُّ أرفع صوتي، دون خجل أو خوف سوري لأقول: أنا فلانة… شخصية مستقلة. أما أنني زوجة فلان، فهذا عقد اجتماعي، لا علاقة له بكينونتي ووجودي وتميّزي!

حاولتُ تعويض “تاريخي السوري” معه، حيث كان مشغولاً بالوجاهة، وارتداء الأطقم المكوية الجميلة، في حين كنتُ أقضم وقتي بإعداد الطعام، وتنظيف البيت، والاهتمام بالأولاد، وللأمانة، كذلك، أتابع دراستي. من قال إنني معنيةٌ بإعداد طبخة “محاشي” مدة خمس ساعات، يمكن أن أزرع فيها الوعي بامرأة مظلومة! بصراحة: أقلّ مرحلةٍ في حياتي أنجزتُ فيها، هي المرحلة التي كنت مشغولة فيها بالإنجاب، الذي تقوم به القطط كذلك، لأنني لم أنجز آنئذ أيّ شيء يخصّ تنمية مهاراتي وشخصيتي!  

في حين أنا أخذتُ دوراً جديداً وهو الوجاهة وبثّ المعرفة، من خلال توعية النساء بمظالمهن التاريخية، وكيفية تحصيل حقوقهن في الحياة الجيدة، في ظل القانون الهولندي، الذي يتيح المساواة الكاملة للمرأة مع الرجل. ولا أنسى كي أريح ضميري أن أنصحهنَّ بالبقاء مع أزواجهن! لكن أيّ مجنونة، بعد أن تشرح لها ممكنات القانون في هولندا، ستبقى أسيرة شروط زواجها السابق؟ مّن ستقبَل متابعةَ حياتِها مع رجلٍ اعتاد أن يكون “الرقم واحد” في الحياة؟ أتاحت لي “مرجعيات الموجة النسوية الثانية” مناقضة أفكار والدي، فالمهم هو الاستقلال الفكري وليس المادي فحسب، المادي قد يكون خطوة نحو الفكري!

اشتركتُ في “لوبيات” نسوية كثيرة، مستفيدة من السوشال ميديا، محاولة رفع الظلم عن النساء أينما وُجِدْنَ! وأنا أحملُ إرث النساء المظلومات من الذكور، عبر التاريخ، ويجب أن أكون قدوة لهن في كسر النظام الأبوي من خلال تربية أطفالي، وتعويد زوجي، على المساواة، كي لا يعيد التاريخ نفسه!

ضاق صدري من هذا الرجل المتصحّر، الصامت، بات وجودُه في حياتي يخنقني، كان لا بدّ أن أضبَّ عواطفي في حقيبة سفر، وأرميها في نهر من أنهار هذه البلاد، التي تشكل المياه ربع مساحتها

على المستوى الشخصي مرّ في حياتي، من خلال الأب أو الأخ أو الزوج أو الابن، رجالٌ محترمون، لطيفون! بل إن زوجي قَبِلَ أن يكون “نصف رجل” بالمفهوم الشرقي، حاول أن يكون “مطاطة” كي يقبلني في عقليتي الجديدة، وأنا غدوتُ ابنة الثقافة الهولندية، امرأة/إنسانة بكامل حقوقي، وما شجعني على “ممارسة عدالتي”أنه كان لا يعترض، بل يستجيب بكل طيبة خاطر ويغيِّر في سلوكياته، وتابع جزءاً من دوره كرجل شرقي، مشغول بـ “تحصيل النقود للعائلة”، ومن حسن حظي أن تجربة اللجوء قد سحبت الوجاهة منه، وألغت أهمية شهاداته العلمية، وحوَّلته إلى كائن عادي، مقصوص الأجنحة، وديعاً، لطيفاً!

أولاً بأول، ضاق صدري من هذا الرجل المتصحّر، الصامت، بات وجودُه في حياتي يخنقني، كان لا بدّ أن أضبَّ عواطفي في حقيبة سفر، وأرميها في نهر من أنهار هذه البلاد، التي تشكل المياه ربع مساحتها.

كلُّ النسويات الناجحات، من الموجة الثانية خاصة، طويْن صفحة الرجال من حياتهن، وأنا لا أريد أن أنتقص من نسويّتي برجل يحمل أفكاراً غريبة، “تخيّل أنه يؤمن بتعدد الزوجات مثلاً”، فقد أخذتُ ما أحتاجه من الرجل/الذكر/ الزوج: أولادٌ، وإتمامُ دراسة، وتخلصٌ من الأهل، ومالٌ كثير جمعه، اقتسمتُه معه، وفقاً لقوانين هولندا!

أسبابٌ عقلية محضة، أوصلتني إلى طلب الطلاق، صار أقصر من طموحاتي، ولم يعد فارس أحلامي، وكرشه باتَ يزعجني! كان لابدّ أن أطوي صفحته من حياتي!

أما السببُ المباشر لطلبي الطلاق فهو رفضه نصيحتي أنا وابنتي الكبرى بضرورة الخضوع للعلاج النفسي، عبر اتباع برنامج “سعادة واندماج”، كي يتخلص من الشعور بالظلم في هولندا، ويتوقف عن القول: إنه يعيش مرتاحاً، لكنه غير سعيد! كيف لمن يعيش معي ألا يكون سعيداً؟ كيف لا يكون الإنسان سعيداً بالمساواة؟ ألم تؤمِّن هولندا لنا كل عوامل الراحة؟ لماذا لا يستطيع هذا الرجل الكفَّ عن نوبات الحنين إلى عالم الشرق المرعب، الشرق الذي يقوم في جلّه على سلطة الرجل/ الذكر/ العسكري؟

بات زوجي مثل العلاقة الأولى التي تتعرف من خلالها إلى “آخَر”، وإلى جسدك معاً. مرورُ الزمن يغير الحاجات والقناعات، من قال إن الزواج يجب أن يبقى إلى الأبد؟ ربما تحتاج كلُّ مرحلة عمرية إلى نموذج جديد من الشريك. ومثلما تغيرت حاجات البشر من العصر الزراعي والصناعي والتقني والإنترنيتي، كذلك تتغير حاجاتنا وقضايانا نحن الأفراد، والنساء خاصة، بمرور العمر. شخصياً، لم تعد لدي الرغبة بتكرار التجربة مع الرجل كـ “زوج”، أشعر أنهم لا يفهموننا نحن معشر النساء، الباحثات عن المساواة!

أحمد جاسم الحسين _ تلفزيون سوريا

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

آخر الأخبار

سوريّات في فخ “تطبيقات البث المباشر”..بين دعارة إلكترونية واتجار بالبشر

يستقصي هذا التحقيق تفشي “تطبيقات البث المباشر” داخل سوريا، ووقوع العديد من الفتيات في فخ تلك التطبيقات، ليجدن أنفسهن يمارسن شكلاً من أشكال “الدعارة...

ابتزاز واغتصابٌ وتعذيب.. سوريون محاصرون في مراكز الاحتجاز اللّيبية

يستقصي هذا التحقيق أحوال المحتجزين السوريين في ليبيا خلافاً للقانون الدولي، وانتهاكات حقوق الإنسان داخل مراكز احتجاز المهاجرين، وخاصة تلك التي تتبع “جهاز دعم...

كعكةُ “ماروتا سيتي” بمليارات الدولارات

آلاف الأسر تتسوّل حقّها بـ"السكن البديل" على أبواب "محافظة دمشق" يستقصي التحقيق أحوال سكان منطقة المزة – بساتين الرازي في دمشق، بعد تهجيرهم من بيوتهم...

معاناة اللاجئات السوريات المصابات بمرض السرطان في تركيا

تصطدم مريضات السرطان من اللاجئات السوريات في تركيا بحواجز تمنعهن من تلقي العلاج على الوجه الأمثل، بداية من أوضاعهن الاقتصادية الصعبة والاختلاف في أحقية...

خدمات المساعدة القانونية المجانية للاجئين السوريين في تركيا

غصون أبوالذهب _ syria press_ أنباء سوريا الجهل بالحقوق القانونية للاجئين السوريين في تركيا يقف حجر عثرة أمام ممارسة حقهم بالوصول إلى العدالة، ويمنعهم...
Exit mobile version