حتى الأحداث الخطيرة الكبرى قد تتيح على هامشها فسحة للطرافة، خاصة لأولئك البعيدين عن موقع الخطر المباشر، أما مَن هم تحت القصف فيفوتهم ذلك الترفيه غير المتوقع الذي يحظى به جمهور المتفرجين. هكذا، مثلاً، من المؤكد أن الأوكرانيين “الذين يترقبون تصريحات وأفعال القادة الدوليين” لم يسمعوا باتصال بشار الأسد ببوتين غداة بدء الهجوم على بلادهم، ولا بأقوال الأول من قبيل وصفه الغزو بتصحيح للتاريخ وإعادة التوازن للعالم، أو قوله أن روسيا تعطي درساً للعالم باحترام القانون والأخلاق العالية والمبادئ الإنسانية… إلخ.
مستشارة الأسد لونا الشبل، في حديث إلى وكالة سبوتنيك الروسية، أكدت الوقوف إلى جانب موسكو في الحرب، ونُقل عنها الوعد بمساعدتها في التغلب على العقوبات الغربية ردّاً لجميلٍ مماثل. سبقتها مذيعة بالكتابة عن ذهاب وزير دفاع بوتين إلى حميميم كي يخبر الأسد بتفاصيل العملية العسكرية المقبلة في أوكرانيا، بصياغة يبدو فيها بوتين كأنه يستشير الأسد وينسق معه على مستوى استراتيجي. وكان الأخير قد سارع إلى الاعتراف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الانفصاليتين عن أوكرانيا بعد الاعتراف الروسي الذي كان بمثابة إعلان للحرب الحالية، وسبق فقط لأوسيتيا الجنوبية الاعتراف بهما، والأخيرة جمهورية مُقتطعة من جورجيا على منوالهما تماماً.
ثمة سعي من الأسد ليزج نفسه في الشأن الأوكراني، والحق أن اسمه صار متداولاً على نحو مختلف عما يريده، إذ حضرت المقارنة بينه وبين الرئيس الأوكراني زيلينسكي. فإثر بدء الغزو الروسي لأوكرانيا صدرت مقالات في صحف غربية كبرى، مثل الغارديان ولوموند، تربط بين ما يفعله بوتين هناك وما يفعله في سوريا، أو تقارن بين البلدين، وصولاً إلى التخوف من أن يتمدد صاحب الطموحات القيصرية على شواطئ المتوسط “جنوب أوروبا” انطلاقاً من قاعدته السورية. هذه الصحوة الغربية محكومة بجزء من الرأي العام منشغل بالقضية الأوكرانية باعتبارها شأناً أوروبياً داخلياً، الحرب داخل البيت لا في قارة أخرى، ومحكومة أيضاً بالاختلافات الفعلية والشكلية بين أوكرانيا وسوريا والتي ستعود إلى الصدارة كلما خفت حدة المواجهة على الجبهة الأوكرانية.
العدو المحتل واحد. هذا وجه التقاطع الأبرز بين سوريا وأوكرانيا، ليأتي بعده وجه الاختلاف الأكبر؛ الأسد ليس زيلينسكي. الأول لقمع الثورة عليه استدعى الاحتلال الروسي بعد الإيراني، والثاني رفض الانصياع لتهديدات بوتين، وقرر القتال من أجل الحفاظ على استقلال بلاده. الفرق ليس شخصياً فحسب، لأن كلاً منهما فعل ما فعله انطلاقاً من موقعه؛ وريث الاستبداد استعان بالأجنبي للحفاظ على كرسيه، بينما الرئيس المنتخب ديموقراطياً اتخذ القرار الوطني الذي تمليه عليه مسؤولياته إزاء ناخبيه وشعبه ككل. جدير بالذكر أن الرئيس الأوكراني السابق بيترو بوروشنكو “الذي خسر الانتخابات لصالح زيلينسكي” عاد إلى بلاده، وهو حسب الأخبار يقود كتيبة من المقاتلين ضد الاحتلال الروسي في دلالة أخرى على وحدة البلاد.
يُوصف زيلينسكي أحياناً برئيس الصدفة، الصدفة التي قادته من ممثل كوميدي إلى سدة الرئاسة. بشار أيضاً يوصف بأنه رئيس الصدفة، الصدفة التي أودت بشقيقه الأكبر في حادث سير فأتت به إلى وراثة أبيه. أداء زيلينسكي في الأسابيع الأخيرة فاجأ المتابعين، فالممثل الكوميدي السابق تصرف كرجل دولة ناضج، وبهدوء يخلو من الاستعراض، وتحاشى الانزلاق إلى ردود أفعال على استفزاز بوتين، رغم أن الرد على شتائمه قد يُكسبه شعبية إضافية بين الأوكرانيين.
في سياق الشتائم، استخدم بوتين تعبير مدمني الحبوب “المخدرة” في وصف القيادة الأوكرانية، فضلاً عن تشبيه النزوع القومي الأوكراني المناهض للهيمنة الروسية بالنازية. إنهم نازيون ومدمنو حبوب مخدرات، هي شتيمة من أعلى مستوى في روسيا، غير أنها “وهذا وجه آخر للمقارنة” لا تساوي الشتيمة التي وجهها إعلام بوتين إلى بشار عندما وصفه بذَنب الكلب، فالشتيمة التي توجَّه إلى العدو تعكس العداء والغيظ، وربما محاولة حشد جمهور محلي مساند للحرب. أما الشتيمة الموجهة لحليف “أو تابع” فهي أقسى وأمضى، لأنها في منزلة الإهانة والتحقير، ولما لها من مصداقية صدورها عن صديق لا عن عدو. مشهود للأسد امتصاصه الإهانات الروسية العديدة والمتعمدة، وكما نعلم انطلاقاً من اعتبارات مغايرة تماماً لترفع زيلينسكي عن الرد على بوتين.
فولوديمير زيلينسكي ممثل كوميدي أوقعته الظروف في اختبار تراجيدي، فأظهر ما يكفي للرد على أنصار بوتين وعلى مبتذلي الصحافة الذين يصفونه بالمهرّج في خلط متعمد أو قليل المعرفة بين مهنتي الكوميدي والمهرّج. لطالما كانت الكوميديا فناً راقياً يخاطب العقول، ويشرّح بمبضع المفارقة والضحك قضايا ذات أهمية راهنة أو ذات أهمية وجودية، ما يجعلها أسلوباً للمعرفة يحتاج سوية عالية من أصحاب هذا الفن. أما التهريج فهو مهنة لها شرف إضحاك الجمهور بشرط ألا تُلصق بها ادعاءات أعلى مما هي عليه، ومن المستحسن أن يسميها أصحاب السلطة باسمها أثناء ممارستها فلا يعتبرونها سياسةً.
من الأمثلة الشهيرة عن التهريج مهرّج السيرك، وهذا يظهر غالباً بلباس وماكياج يتوخى الإضحاك على شكله قبل أدائه، وضمن فواصل يحتاجها العاملون للإعداد للفقرة التالية، ومفيدة للجمهور الذي ربما كان قد حبس أنفاسه وشُدّت أعصابه من متابعة بهلوانيات خطرة، أو مشاهدة ألعاب لا تقل خطورة مع الحيوانات المفترسة. المثال الآخر الشهير أيضاً هو مهرّج البلاط الذي قبل الترفيه عن ضيوف القصر يتواضع بإسفاف ليرضي غرور السلطان، وقد تلزم في هذا السياق ترجمة السلطان إلى قيصر.
في هذا السياق ترجمة السلطان إلى قيصر. لدينا مثال وقح جداً على من يلعب مهنة البلطجي والمهرج معاً في منصب “الرئيس الشيشاني”، وهو زلمة بوتين بعد سحقه انتفاضة الشيشان بأسلوب الأرض المحروقة. رمضان قديروف يؤدي دور الشبّيح كلما دعت الحاجة، وقد أعلن عن مشاركة عشرة آلاف من قواته في الحرب على أوكرانيا، ولا ينسى التهريج في الوقت نفسه، إذ ينقل عنه موقع RT الروسي وصفه العقوبات الغربية على روسيا بأنها خرافات بايدنية بلا جدوى، مضيفاً بتهريج عفوي: أعيش تحت كل العقوبات، وأعيش براحة. بدوره، قد يكون قديروف مضحكاً بلا تبعات تتجاوز اللحظة لجمهور آخر، أما بالنسبة للسوريين فهو يستدعي مقارنة أخرى أكثر وجاهة من المقارنة مع أوكرانيا.
عمر قدور _ المدن