كشفت الحرب الروسية على أوكرانيا ضرورة تجذير الموقف الأمريكي من نظام الاستبداد المتوحش في سوريا، فمثل هكذا تجذير كان يمنع نظام بوتين من شنّ حربه على الديمقراطية الأوكرانية، ونقصد بالتجذير أخذ موقف أمريكي يرتكز على مصالحها الاستراتيجية وعلى مبادئها في الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان، مثل هذا الموقف لم تتخذه إدارة أوباما، وتحديداً بعد استخدام النظام الأسدي للأسلحة الكيماوية في الغوطة الشرقية من دمشق.
الموقف الأمريكي لم يكن حاسماً في البداية، وهذا أبقى الوضع الاستثنائي مهيمناً على الصراع في سوريا، وقد كشفت الحقائق لاحقاً، أن التدخل الروسي كان بضوء أمريكي، ما سمح لاحقاً بإغماض العينين عنه، وإغماض العينين قبل ذلك عن التدخل الإيراني، ونتائج هذين التدخلين عقّدت الصراعات مع الغرب، إذ استفاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من عدم جذرية الموقف الأمريكي حيال الصراعات، فقام بغزو أوكرانيا.
إن تبني بعض المسؤولين في الإدارات الأمريكية لشعار تغيير سلوك النظام، كان المعنى منها عدم تبني سياسة علنية بإسقاطه، على الأقل في الوقت الحالي، ولكن السياسات الحقيقية هي غير ذلك.
لقد سلك الأسد طريق اللاعودة في إجرامه وحجم مجازره ضد الإنسانية، وعليه فسيكون من المستحيل على أي طرف التغاضي عنها وتجاوزها.
إن حجم الأدلة عن هذه المجازر يفوق مثيلاتها في العهد النازي، وستكون جرائم الإبادة الجماعية الموثقة بالأدلة حبل المشنقة التي سيلتف حول عنق مرتكبيها وأولهم بشار الأسد.
لقد أدرك العالم أن السكوت والتغاضي عن مجازر الأسد هو خطر يهدد الإنسانية والتوازنات والأمن العالميين، وقد لمسنا هذا الإدراك إبان الغزو الروسي البربري لأوكرانيا.
إن السكوت عن إجرام بحجم مجازر بشار الأسد، سيكون مشجعاً لأنظمه استبدادية أخرى لارتكاب مثيلاتها وأفظع منها مستقبلاً.
إن على العالم الحر أن يتحد ضد الأنظمة التي ترتكب جرائم ضد الإنسانية، والتي ترقى لجرائم إبادة جماعية، كهذه التي ارتكبها أسد، ويتّحد ضد الأنظمة الاستبدادية، فلن يكون هناك درء لمنع حدوث مثل هذه الجرائم، مالم يكن العالم الحر متحداً بإرادته وعزيمته وتصميمه على منع حدوث مثل هذه المجازر مستقبلًا، وجاداً بجلب مرتكبيها للعدالة.
لن يكون أمام الولايات المتحدة الأمريكية والعالم الحر إلا العمل الجاد والجدي لجلب أسد للعدالة، ومحاسبته، وإسقاط نظامه المجرم، وإن لم يفعلوا، فسيخسرون الكثير من مصداقيتهم وسمعتهم وموقفهم الأخلاقي الرفيع، وستكون أمريكا خاصةً الخاسر الأكبر كقائد وصاحب دور ريادي متميز في دعم الحرية والديمقراطية ومقارعه الاستبداد.
إن خسران الولايات المتحدة لسمعتها الأخلاقية الرفيعة ودورها الريادي المتميز، سيفقدها بريقها ولمعانها ومكانتها كمنارة متألقة، تتطلع نحوها شعوب العالم وتهتدي بها، وتتعاطف معها في الحرية والديمقراطية والعدالة والكرامة الإنسانية.
إن حفاظ الولايات المتحدة على هذه المكانة، وكسب تعاطف شعوب العالم معها، هو حاجة ملحة لأمريكا، للحفاظ على مصالحها وتعزير هذه المصالح.
إن مصالح أمريكا الحيوية ليست مفصولة عن مبادئها وقيمها، بل إن المحافظة على هذه القيم والمبادئ هو حيوي جداً لمصالحها. إن المصالح والقيم والمبادئ الأميركية مكون واحد، لا يمكن تجزئته، فهو متمم لبعضه بعضاً.
إن قوة ونفوذ الولايات المتحدة لا ينحصران فقط في عسكرها واقتصادها، وإنما يمتدان وينبعان من عمق وأصاله القيم والمبادئ التي تأسست عليها الولايات المتحدة عقب الثورة الأمريكية العظيمة في التحرر، التي قادها جورج واشنطن، لذا فإن خسران الولايات المتحدة لهذا الموقع الأخلاقي المبدئي، المتأصل والمتقدم، سوف يحدّ كثيراً من قوتها ونفوذها، وبالتالي يحدّ من تحقيق مصالحها ويؤثر عليها.
هنا نقول: إنه ليس أمام الولايات المتحدة سوى العمل الجدي والجاد على جلب أسد للعدالة، وإسقاط حكمه لتقويم البوصلة الأخلاقية العالمية، ودعم ونشر حركات التحرر وتحقيق مصالحها.
ومن هنا نقول إنه يجب على العالم الحر بعد التجربتين السورية والأوكرانية أن يتحد، فيا أحرار العالم اتحدوا، وعلى الولايات المتحدة أن تقود هذا الاتحاد.
الإدارة الأمريكية تعرف حجم فساد نظام آل الأسد، وتدرك أكثر أن هذا النظام غير قابل للإصلاح أو التغيّر الإيجابي، لتشارك السلطة عبر الانتخابات، فهو يرى فيها تهديداً لوجوده كنظام مهيمن.
وتعرف الولايات المتحدة خطورة سياسة هذا النظام على إقليم الشرق الأوسط بمجمله، هذه الخطورة، كان ينبغي أخذها بالاعتبار بعد استخدامه للأسلحة الكيماوية، ولكن الرؤى الأمريكية كانت تعتقد بإمكانية حلحلة الأوضاع في الشرق الأوسط كرزمة واحدة، منها صفقة القرن كما أطلق عليها الرئيس ترامب، وصفقة منع إيران من حيازة قنبلتها الذرية، التي ستتحول إلى سلاح ابتزاز لدول المنطقة ولمصالح الولايات المتحدة في هذا الإقليم وفي العالم.
إن عدم ارتباط السياسة الأمريكية بمبادئها المتعلقة بالحريات وحقوق الإنسان ساهم في استمرار أنظمة شمولية في سدة الحكم في بلدان المنطقة، وإن استمرار هذه الأنظمة الشمولية توضّح فجأة مع الحرب الروسية الظالمة على أوكرانيا الديمقراطية، إذ اصطفت هذه الأنظمة إلى جانب العدوان الروسي، موضحة أن دول الاستبداد الدولية تجتمع حول الدفاع عن وجودها وبنيتها في حالات تعتقد أنها خطرٌ عليها.
لو ضغطت الولايات المتحدة على الروس والنظام السوري عام 2013 بعد استخدام السلاح الكيماوي، وكان هذا الضغط يرتكز على ضرورة محاسبته وترحيله عن سدّة الحكم، ما كان لبوتين اليوم أن يشنّ حربه على بلد مسالم، بسبب خياراته الاقتصادية والسياسية، التي تحقق مصالحه.
لكن الولايات المتحدة لم تفعل ذلك كما يجب، وهذا سمح لدول صديقة لها، تعتبر من حلفها التاريخي كدول الخليج العربي، أن تستشعر خطل السياسة الأمريكية تجاه حلفائها، وهذا ما دفعها لرفض التناغم مع المطالب الأمريكية بخصوص سوق النفط العالمية، وكميات النفط المعروض في هذه السوق، والتي ستشهد توتراً كبيراً على صعيد أسعار النفط.
إن الولايات المتحدة معنية بالتهيئة لرحيل نظام الأسد، سيما بعد أن اتضح موقفه المساند لحرب بوتين على أوكرانيا اليوم، وحربه في الغد ضد الغرب الأوربي ودوله الديمقراطية.
إن الحسابات السياسية الاستراتيجية الأمريكية ينبغي أن تأخذ بالحسبان أن تغيير نظام الاستبداد الأسدي الذي ارتكب جرائم كبرى ضد الإنسانية سيصب في إضعاف الموقف الروسي، ويمنع طغاة آخرين من تكرار تجربة الوحشية الأسدية.
إن مصالح الولايات المتحدة لا تتحقق بعمقها الاستراتيجي في ظل عقد صفقات صغرى على حساب التغيير الأكبر، وهي لا تتحقق أيضاً في حالة عدم التعبير عن مبادئ الحريات الأمريكية ومبادئ حقوق الإنسان، وهو ما يعني استدارة سياسية وعسكرية واقتصادية أمريكية مع حلفائها، بحيث تعيد ترتيب أولويات الملف السوري، وطرد الحرس الثوري وميليشياته الطائفية من سوريا، وتقوية قوى الثورة السورية المعادية لنظام الأسد، ودعم حلفائها في الشرق الأوسط لخدمة هذا التوجه الصحيح.
إن الأخذ بسياسة محاسبة نظام الأسد على جرائمه، يعني الإسراع في ترحيله عن سدة حكم البلاد، التي يهيمن عليها بقوة وبطش أجهزة مخابراته المتوحشة، وهذا سيصحح موقف الولايات المتحدة أمام حلفائها ويمنحها الصدقية الحقيقية عن دفاعها عن الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان دون الوقوع بفخاخ الصفقات الصغرى على حساب التغيير الأكبر..
إن حرب روسيا على أوكرانيا كشفت أهمية هذا الخيار الاستراتيجي، فهل ستعمد إدارة الرئيس جو بايدن إلى العمل وفق هذه الرؤية، أم أنها ستبقى أسيرة أوهام فكر بريت ماكغورك حول الملف السوري، وأوهام صنوه في الملف الإيراني السيد روبرت مالي؟ ننتظر نحن الأمريكيين تغييراً يتوافق مع مصالح بلادنا العليا.
هشام نشواتي _ نينار برس