syria press_ أنباء سوريا
لا يعكس إطلاق أول تقرير حقوقي روسي عن انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا بعد عشر سنوات من انطلاق الثورة الشعبية في البلاد، تغييراً في المزاج الشعبي الروسي تجاه سياسات موسكو التي تدخلت عسكرياً إلى جانب نظام الرئيس بشار الأسد في أيلول/سبتمبر 2015، لكنه يعكس محاولة من المجتمع المدني الروسي لمد صلات ودية ضرورية إلى نظيره السوري، وإمداد الرأي العام المحلي بمعلومات قد تكون غير موجودة حول معنى الصراع الحقيقي.
وفيما تتحدث وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية السورية، ونظيرتها الروسية أيضاً، عن دعم شعبي روسي مطلق لسياسة الكرملين، فإن معدي التقرير العاملين في أربع منظمات حقوقية روسية، يقولون أن واقع الصراع في سوريا، بما في ذلك انتهاكات حقوق الإنسان، غاب إلى حد كبير عن أذهان المجتمع الروسي، رغم أنه أحد أكثر الأحداث مأسوية في تاريخ البشرية الحديث، حيث تأثر أكثر من 20 مليون شخص بالحرب، وعدد القتلى والجرحى لا يُحصى. كما أن الوحشية التي اتّسم بها الصراع تجاوزت كل الحدود الممكنة لمعايير الإنسانية.
وحضرت “المدن” المؤتمر الصحافي الخاص بإطلاق التقرير من موسكو، الجمعة، عبر تطبيق “زوم” إلى جانب وسائل إعلام عالمية من بينها هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” ووسائل إعلام سورية معارضة منها صحيفة “عنب بلدي”. وتم التواصل مع وسائل الإعلام ضمن طابع من السرّية عموماً بسبب المخاوف الأمنية والملاحقات التي قد تجري للناشطين الحقوقيين، في روسيا التي تقول منظمات حقوقية دولية أنها تشدد قبضتها على المجال العام وتلاحق المعارضين بتهم مختلفة.
والحال أن التقرير حمل عنوان “سوريا عقد من الويلات” وصدر عن منظمة “مركز ميموريال” و”لجنة المساعدة المدنية” ولجنة “أمهات الجنود في سانت بطرسبرغ” و”حركة حقوق الإنسان الشبابية”. وأدارت المؤتمر الصحافي تاتيانا لوكشينا، مديرة برنامج روسيا في منظمة “هيومن رايتس ووتش” التي لم تتدخل في سياق التقرير طوال عامين من العمل عليه. فيما حلل التقرير انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني من قبل جميع أطراف النزاع بما في ذلك الحكومة السورية، والمنظمات الإرهابية، وروسيا، والتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، كاشفاً عن النطاق غير المسبوق للانتهاكات وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية على مدى العقد الماضي.
وفيما تبدو المعلومات التي يقدمها التقرير معروفة للعارفين بالشأن السوري، خصوصاً أنها حاضرة في التقارير الحقوقية ذات الصلة، فإنها تبقى جديدة إلى حد ما بالنسبة للجمهور الروسي، الذي يقول معدو التقرير أن معظمه لا يفهم ما يجري في سوريا وما يحدث للمدنيين في ذلك البلد البعيد جغرافياً وثقافياً، ولذلك يدعمون بالفعل أنشطة روسيا هناك، والتي تقدم لهم من زاوية واحدة هي محاربة الإرهاب.
وشارك في المؤتمر سفيتلانا غانوشكينا، عضو مجلس إدارة “مركز ميموريال لحقوق الإنسان”، ورئيسة “لجنة المساعدة المدنية”، ومديرة شبكة حقوق الهجرة في “مركز ميموريال”. وأوليغ أورلوف، عضو مجلس إدارة “مركز ميموريال” ورئيس برنامج “المناطق الساخنة” في المركز. وإيكاترينا سوكيريانسكايا، عضو مجلس إدارة “مركز ميموريال”، وفيكتوريا غروموفا، العضو السابق في مجلس تنسيق “حركة حقوق الإنسان الشبابية”. وألكسندر غورباتشوف، محامي لجنة “أمهات الجنود في سانت بطرسبرغ.”
وضمن التقرير الذي يقارب 200 صفحة، تم تحليل المراحل الرئيسية للنزاع وتوثيق الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بما في ذلك الاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري والتعذيب والمعاملة اللاإنسانية في السجون وعمليات الإعدام خارج نطاق القضاء والهجمات غير القانونية بما في ذلك استخدام الأسلحة العشوائية والمحظورة واستخدام الحصار والتجويع والعنف الجنسي والحرمان من الرعاية الطبية كوسائل حرب.
واستند التقرير إلى مقابلات مع أكثر من 150 شاهد وناجٍ خارج البلاد، حيث أن معدّي التقرير لم يتمكنوا من دخول سوريا، بل قاموا بإجراء مقابلات مع سوريين فرّوا من الحرب إلى لبنان والأردن وتركيا وألمانيا وبلجيكا وهولندا وروسيا. كما تم الاستناد إلى مواد من مختلف وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية وناشطي حقوق الإنسان السوريين والخبراء الدوليين، والتي تؤكد شهادات شهود العيان.
ولا يعتبر عدم تمكن الخبراء الروس من دخول الأراضي السورية لمعاينة الواقع ميدانياً، كحال نشاطهم في شمال القوقاز والشيشان منذ تسعينيات القرن الماضي، تقليلاً من أهمية التقرير أو ضربة لمصداقيته. فالنظام السوري يمنع المنظمات الدولية، بما في ذلك منظمات الأمم المتحدة من العمل بحرية في هذا الإطار، كما يمنع وسائل الإعلام المستقلة من التواجد في البلاد منذ بداية الصراع. أما مصداقية التقرير فتأتي من شموليته لكافة الأطراف الفاعلة في النزاع أولاً، واستناده إلى مقارنات بين شهادات الناجين من الفظائع السورية والتقارير الحقوقية الموثقة ذات الصلة ومقاطع الفيديو والصور والأرشيف الرقمي، ما يحيل إلى نتائج قاطعة.
وعلق أورلوف بأن التقرير لا يتضمن أي معلومات لا تمتلكها الأسرة الدولية حالياً، مضيفاً: “أريد أن أكرر أن الغرض من التقرير هو إفهام الرأي العام الروسي بشأن جرائم الحرب في سوريا والانتهاكات الجسيمة هناك، على اعتبار أن روسيا طرف أساسي في الصراع”، موضحاً أن الغرض من التقرير ليس توجيه أصابع الاتهامات لشخصيات محددة بخصوص الانتهاكات بل شرح ما يحصل في سوريا من وجهة نظر حقوق الإنسان والقوانين الدولية. خصوصاً أن كثيراً من النقاشات الدولية ذات الصلة تركز فقط على جانب الجماعات الجهادية والإرهابية، وتنسى المشاركين الآخرين الفاعلين في الحرب.
وأكمل أورلوف: “روسيا دخلت الحرب ونحن كمواطنين روس نخشى ونقلق ونأسف من هذه المسؤولية التي يتحملها بلدنا ومواطنونا إزاء ما رأيناه منذ دخول جيشنا في النزاع. الانتهاكات سبقت هذا التاريخ بالتأكيد لكن القوات الروسية أتت بمزيد من المعاناة للأسف للمواطنين السوريين علماً أن الجيش دخل وهو على بينة مما كان يجري في البلاد.”
ولعل أكثر ما يثير الاهتمام ربما في التقرير هو الحديث عن اللاجئين السوريين في روسيا، بوصفه موضوعاً لا يتم الحديث عنه عادة في التقارير المماثلة وفي الإعلام. وشرحت غانوشكينا كيفية ترحيل لاجئين سوريين في روسيا إلى سوريا أو تركيا، موضحة أن اللاجئين السوريين في روسيا يواجهون رفض طلبات لجوئهم من جهة، ومشكلات قانونية مثل عدم امتلاكهم للإقامة من جهة ثانية. والمشكلة الأكبر كانت إرسال الأطفال السوريين إلى المدرسة، حيث تم انتهاك المبدأ الأهم في الدستور الروسي الخاص بتعليم الأطفال.
وأردفت غانوشكينا: “هناك 13 ألف مواطن سوري في لائحة الانتظار بالنسبة لطلبات اللجوء. هذا رقم بسيط بالنسبة لحجم الاتحاد الروسي. بالتالي لماذا لا يمكننا إعطاؤهم حق اللجوء؟ روسيا قادرة على توفير اللجوء حتى لو زاد العدد لضعفين. يجب على الأقل إعطاؤهم حق العمل والإقامة”، موضحة أن 591 سورياً حصلوا على اللجوء المؤقت، في الماضي لكن ذلك العدد انخفض اليوم. ولا يعني ذلك أن الأشخاص عادوا إلى سوريا طوعياً مع نهاية الحرب، بل يعني فقط أن روسيا سحبت منهم حقهم في اللجوء المؤقت.
وفي رد على أسئلة الصحافيين حول مدى تأثير الرأي العام الروسي على سياسات الكرملين حتى بعد نشر التقرير، قال غورباتشوف: “عندما بدأنا صياغة التقرير لم تكن التوقعات كبيرة. سوريا بلد بعيد جغرافياً وثقافياً والمواطن الروسي يهتم بحياته وأمنه المباشر… نحن نعتمد على الشباب الذين مازالوا يؤمنون بالعدالة وإمكانية التغيير. وبالتالي نعتقد أن نسبة من الرأي العام ستتجاوب وستفهم الموضوع.”
لكن أورلوف كان أكثر تشاؤماً من ذلك لأنه عندما كانت الحرب جارية على أراضي الاتحاد الروسي، في إشارة إلى حربي الشيشان. كان الرأي العام مدركاً لها ولم يكن هنالك ردة فعل على المستوى المطلوب للأسف. “وبالتالي نحن لا نعرف ما سيحدث بخصوص سوريا. مهمتنا تنحصر بأن نبلغ ونعلم ونقوم بعملنا. لكننا لا نتوقع استجابة اكبر.”
وهنا، يراهن النظام السوري اليوم على النسيان والتشاؤم ومرور الزمن لمحو انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها من الذاكرة، ويعمل مع حلفائه على ضخ سرديات بديلة لا تشوه فقط معنى الثورة السورية كحركة شعبية طالبت بالحرية، عبر إطلاق صفة العمالة الخارجية أو الجهادية الإسلامية على المعارضين ككل، بل تحاول أيضاً نسف التاريخ الدامي في السنوات العشر الماضية للتنصل من المسؤولية وإعادة صياغ النقاش الإنساني في البلاد بعيداً من القضايا الأكثر إلحاحاً، والتي قد ترتقي إلى مستوى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
واللافت هنا أنه في العامين الأخيرين تكثفت الهجمات الروسية الرسمية ضد المنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام المستقلة التي تحدثت عن انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا بما في ذلك “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” العام 2019. وفي جميع البيانات الروسية يتم الربط بين حقوق الإنسان والديموقراطية من جهة وبين العمالة للغرب التي توصل لدعم الجهاديين، وإن كانت هذه المزاعم بعيدة من المنطق، فإنها حدوثها مرة أخرى ضد المنظمات الحقوقية الروسية اليوم، يبقى أمراً متوقعاً في سياق مبادرة روسية لإعادة صياغة النقاش الإنساني في سوريا، طرحت العام 2017، وحرفه عن رفع دعاوى قضائية بخصوص جرائم الحرب التي ارتكبت في البلاد.
وفي رد على سؤال “المدن” حول ذلك، قال أورلوف: “مرة أخرى نعم من الممكن أن تحدث تلك التبعات الحزينة لنا. عندما قررنا أن نعد هذا التقرير فهمنا سلفاً ماهية ما سنواجهه. ستكون هناك موجة من الانتقادات التي رأيناها سلفاً في بعض التعليقات في “يوتيوب”، كما ستكون هناك محاولات لإلحاق الأضرار بسمعتنا، خصوصاً مع توافر القوانين التي تسهل ذلك في روسيا. لكننا نمتلك عدداً من القيم التي نراها سليمة وصائبة. أما عن مسألة دعم الإرهاب فنحن تعرضنا لتلك الاتهامات أصلاً في السنوات الماضية بداية من الحرب الأولى في الشيشان والقوقاز.”
وأكمل أورلوف: “لاحظنا في التعليقات التي وصلتنا خلال هذا الاجتماع أن هناك من يتساءل ويقول أننا لا نصنف الحرب السورية على أنها مكافحة للإرهاب. تلك التعليقات تنطلق من منطق أن محاربة الإرهاب تبرر أي فعل آخر. لكن لا، نحن نكرر بخصوص سوريا ما قلناه بخصوص شمال القوقاز في الماضي، وهو أنه ينبغي على كل السلطات أن تكافح الإرهاب لكن ذلك لا يبرر أياً من الجرائم التي تحدث لأن أي حرب وأي كفاح ضد الإرهاب يجب أن يتم وفق للقوانين الإنسانية والقوانين الدولية بشكل عام.
وختم أورلوف: “لمن يقول أن المشاركة الروسية في سوريا هي حرب ضد الإرهاب. أرجوكم اقرأوا تقريرنا، لأننا نسلط فيه الضوء على ذلك النزاع وخلفيته التاريخية، كيف بدأ وكيف تطور وكيف تدخلت فيه الجماعات الإرهابية. لقد حاول نظام بشار الأسد أن يقمع الاحتجاجات الشعبية ضد الدكتاتورية واستخدم العنف لذلك الغرض. ولعل ممارسات نظام الأسد هي التي أدت إلى تكريس سيطرة الجماعات الإرهابية في عدد من المناطق. وقد وصفنا كثيراً من تلك الممارسات بالتفصيل”.
وليد بركسية _ المدن