syria press_ أنباء سوريا
تبلغ المسافة بين القدس ونابلس نحو 67 كيلومتراً، ولا تجد امرأتان خمسينيتان غضاضةً في قطع هذه المسافة مشياً على الأقدام، عبر السهول والجبال والوديان بعيداً عن حواجز الاحتلال لإحياء ليلة القدر في الأقصى الشريف.
الدافع وراء هذه الحركة هو نفسه الذي حرّك عشرات آلاف من أبناء فلسطين (من كل فلسطين، من النهر إلى البحر) للزحف إلى القدس، ليس للصلاة فقط، بل لإسناد شباب القدس وشيبها في مواجهتهم قطعان المستوطنين الذين توحشوا في العدوان على المقدسيين، وخصوصاً على سكان حيّ الشيخ جرّاح، حيث يحاول الاحتلال وقطعان مستوطنيه إعادة إنتاج النكبة وتهديد نحو الآلاف من سكانه بالاقتلاع من بيوتهم.
يؤشّر مشهد القدس في الأيام الأخيرة التي أعادت “القضية” إلى واجهة الاهتمام عربياً ودولياً، على عدة قضايا:
أولاً: حرّكت المواجهات في القدس جماهير الداخل الفلسطيني، وفرضت على أجندة أحزابهم القضية الوطنية، بعد أن تراجعت هذه القضية في سلم أولوياتهم لمصلحة قضايا مطلبية محلية، مثل العنف داخل المجتمع الفلسطيني، والانخراط في مسلسل الانتخابات البرلمانية. وفرض مشهد زحف آلاف من سخنين وأم الفحم ويافا وحيفا نحو القدس نقطة ساخنة في ملف عرب الداخل، بل بدا أن فلسطين كلها وحّدتها المقاومة، واستفاقت فلسطين، كل فلسطين، بعد سنوات النكبة الطويلة على وقع تكبيرات مآذن القدس، وهتاف شيب القدس وشبّانها ورجالها ونسائها، وبدا أن روح الانتفاضة المقدسية تمكّنت من إعادة إحياء الروح الوطنية الجامعة بين جميع مكونات الشعب الفلسطيني من الماء إلى الماء، بعد أن عمل الاحتلال، بجدٍّ واجتهاد، على قتلها وتمزيقها. واكتملت صورة “المشروع الوطني الفلسطيني” بعد أن دخلت غزة على الخط، بصواريخها التي “التزمت” مواقيت التهديد، شأنها شأن أي قوةٍ حقيقيةٍ تنفذ تهديدها. وما على الطرف الآخر إلا أن يأخذ التهديد على محمل الجد ويستعد، وهذا ما حصل، وتلك علامةٌ فارقةٌ في تاريخ النضال الفلسطيني، سيتوقف عندها المراقبون والباحثون طويلاً. هذا إضافة إلى “خضوع” الاحتلال، ربما للمرة الأولى في تاريخ الصراع، لضغط الاشتعال المقدسي وإلغاء مسيرة “الأعلام” الصهيونية، وتأجيل محكمته العليا النطق بقرار سرقة بيوت المقدسيين في حيّ الشيخ جرّاح.
ثانياً: أثبت غياب ما يُسمى “التنسيق الأمني” بين سلطات الاحتلال وسلطة محمود عباس، عن الساحة المقدسية، أنه عنصرٌ بالغ الإيجابية في ضبط إيقاع الجماهير الغاضبة. ومنَحها هذا الغياب حرية حركةٍ واسعةٍ بعيداً عن قبضة جهاز الأمن الوقائي الخشنة، وتوحّش مهندسي “الخوف” على “المشروع الوطني الفلسطيني!” الذين يعتبرون أي مقاومةٍ للاحتلال تهديداً لهذا المشروع الذي لم يعد موجوداً في ظل سلطةٍ أقسم رئيسها، منذ أعوام، أنه لن “يسمح” بقيام انتفاضة فلسطينية ثالثة. ويفتخر بأنه “عمره ما حمل مسدّساً ولم يستعمله”. وهنا لا بد من وقفة قصيرة، فحكاية التنسيق الأمني اللعينة هذه أحالت سلطة عباس إلى عبء ثقيل على المشروع الوطني الفلسطيني، وأثبتت هذه السلطة، خصوصاً بعد إلغاء الانتخابات البرلمانية، بحجة تعذّر انتخابات القدس، أنها عقبة كأداء في طريق هذا المشروع.
الانتفاضة الشعبية اليوم هي الشكل الأكثر تعبيراً عن فن الممكن الفلسطيني، وهي طريقة التعبير الوحيدة الممكنة عن المقاومة “الشرعية” المتّسقة مع ما يسمى القانون الدولي، والمناخ السياسي السائد في المنطقة والعالم، بعد تسونامي التطبيع العربي المجاني مع الكيان الصهيوني. وأي عقبةٍ تقف في طريق الانتفاض هي خائنة، بكل التعبيرات الفظّة، ولا يمكن أن تقوم أي قائمة للشعب الفلسطيني مع وجود سلطة رام الله. لهذا، يتعيّن على نخب الشعب الفلسطيني، في فلسطين والخارج، تكثيف كل جهودهم لبناء وعي جماهيري بهذه الحقيقة. ليس هذا فحسب، بل على النخب العربية أيضاً بناء وعي عربي جمعي مساند، قوامه تبيان حقيقة جارحة، لم تلق ما تستحق من إضاءة، أن هناك تنسيقاً أمنياً عربياً – صهيونياً، لا يقلّ عمقاً وخطورة عن التنسيق الأمني بين تل أبيب ورام الله، وعلى قلة المعلومات التي تتوافر لدى المراقب بهذا الشأن، إلا أن هناك دلائل بالغة الدلالة على وجود هذا التنسيق الذي يستهدف إطفاء أي “حرائق” شعبية عربية تشبّ للتضامن مع الشعب الفلسطيني.
ليس هذا فقط، بل إن أجهزة أمن عربية تنشط لإسناد أي تنسيق أمني فلسطيني من لدن السلطة، لمنع ثورة الجمهور الفلسطيني. وهذا كله مسنودٌ بحراكٍ دوليٍّ يلتهب، هو الآخر، للإسراع في إسناد جهد تل أبيب ورام الله لتطويق حراك الشعب الفلسطيني الثائر. وفي ظل هذه الرؤية، يتعين إنارة الوعي الجمعي العربي والفلسطيني، بخاصة أنه بصدد مواجهة ليس الاحتلال الصهيوني الصريح فقط، بل ثمة احتلالات “وطنية” أكثر شراسةً، تلهج ألسنتها بالوقوف ضد الحق الفلسطيني، وتتحرّك مكراً بليل لإجهاض ثورته وحلمه بالتحرير، عبر دعم الاحتلال وتقوية قبضته على الأرض الفلسطينية ومن عليها.
ثالثاً: يكتب لي صديق “علماني”، معلقاً على ثورة القدس الأخيرة، قائلاً: أنا متخوّف من ربط القضية الفلسطينية بالدين والأقصى فقط!، هي قضية سياسية اجتماعية اقتصادية سكانية ووجودية لشعب نزع من أرضه، وأقيمت عليها مستعمرة صهيونية (سياسية – دينية المحتوي، استعمارية الهدف في نهب ثروات شعب). أن نستعمل أدوات العدو نفسها تجربة أثبتت فشلها، قضيتنا قضية تحرّر وطني. مصلحتنا أن تكون عاصمتنا في عقر مستعمرتهم.. أكبر غلطة لإسرائيل أنها خدعت الأجيال والجاهلين في التاريخ القريب، وليس البعيد، حيث جعلت القدس العاصمة بدلاً من العاصمة الحقيقية، الرملة، التي بالطبيعة التاريخية والجغرافية لا يمكن أن تكون عاصمة غيرها، وهلّلت للقدس لتجعل القضية مقسّمة دينياً وعالمياً. القدس العاصمة الكونية العالمية الفلسطينية، والرملة عاصمة فلسطين، مثلها مثل روما والفاتيكان.. هذه نظرة استراتيجية تشقّهم.. أنا أعرف وأنت تعرف أن هذه الثورة لن تستمر بهذه الطريقة للأسف، ما لم يزيحوا القيادات الحالية.
“أسف” صديقي العلماني من الرابط “الديني” بين فلسطين قضيةً والإسلام، هو قيمة مضافة للصراع، وليس مدعاة للأسف. إسقاط هذا الرابط ببساطة حرمان لفلسطين بيئةً “دينية” إسلامية داعمة، قوامها أكثر من مليار ونصف مليار مسلم، يؤمنون بأنّ قدسهم جزء من عقيدة قرآنية راسخة، يتعبّدون بالانتماء إليها والدفاع عنها. وهذه الرؤية “العلمانية” نفسها تعمل على “تحييد” البيئة العربية الجماهيرية الحاضنة لفلسطين وشعبها، والبالغ عددها أربعمائة مليون عربي، وذلك بحصر قضية الصراع بين شعب فلسطيني “منقطع” عن امتداداته العربية والإسلامية، في مواجهة كيان صهيوني يهودي، يستمد نسغ حياته من بيئةٍ يهودية دولية داعمة مالياً ومعنوياً، ونظام عالمي احتضن هذا الكيان ولم يزل، ومليارات داعمة تصبّ في خزينته من أصقاع الأرض كافة.
أخيراً.. يلعب الأردن دوراً خطيراً وفاعلاً في حماية فلسطين أو خذلانها حسب حركته، فهو يملك من الأوراق ما تجعله الطرف الأكثر قدرةً على الضغط على كيان العدو، لوقف عدوانه المتوحش على شعب فلسطين، أو تحجيم هذا العدوان، وخصوصاً في مضمار الصراع على ملكية الأرض الفلسطينية، (حيّ الشيخ جرّاح هو المثال الأكثر نصاعة هنا)، ذلك أن الأردن، بحكم وجوده سلطة على الضفة الغربية حتى احتلالها، يوم أن كانت جزءاً من الأراضي الأردنية إبّان حرب 1967، هو الجهة الأكثر قدرةً على مقارعة الاحتلال، والضغط عليه، خصوصاً في المحافل الدولية. وهنا لا بد من العمل على إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، لقلب الطاولة على ما جرى بعد قرار فك ارتباط الأردن (القانوني والإداري) بالضفة الغربية، باعتبار الضفة الغربية أرضاً أردنية يتعين “تحريرها” أردنياً قبل فلسطينياً. صحيحٌ أن فكرة كهذه تبدو مجنونة، ولكن الأكثر جنوناً ما جرى بعد اتفاق أوسلو اللعين، الذي قزّم حلم الدولة الفلسطينية، وحوله إلى كابوس بأيدٍ فلسطينية (مسخت صورة المقاومة، وبدّدت كل الإرث النضالي لحركة فتح وفصائل المقاومة) وبمباركة عربية ودولية. ونحسب أن إعادة النظر بقرار فك الارتباط يمكن أن يكون مفتاحاً سحرياً للخروج من المأزق الخطير والمعقد الذي تعيشه قضية فلسطين اليوم، وتلك مسألة شائكة تحتاج وقفة أخرى.
حلمي الأسمر _ العربي الجديد