أعترف أنني قلت يوماً عن النسوية إنها تكريس لدونية المرأة في مجتمعاتنا العربية التي تتعامل بدونيةٍ أصلاً معها، وإن المطلوب نقلة في حقوق المواطنة للجميع، نساء ورجالاً، وإن الرجل فرض عليه دور المستبدّ عبر التشريعات والقوانين التي ميّزته عن المرأة لغرضٍ سلطوي سياسي واجتماعي، فالسلطة ذكورية، سواء سياسية أو دينية أو عائلية قبلية، وهو ما يستلزم تراتبيةً تضع الرجل في مقدمتها، وتطلب منه أدواراً تصبح جزءاً من منظومة تفكيره، تنشأ معه منذ ولادته، وتتكرّس في لاوعيه، لتصبح هي الثابت المطلق، وأي تحوّل فيها سوف يحيل إلى سلسلة من الصفات والأوصام التي تضع الرجل الراغب في الخروج عن السياق في النسق الاجتماعي الثاني، المخصّص للنساء، ويحظى بمقدار كبير من التهكّم الذي لا تتورّع كثيراتٌ عن المشاركة فيه، من دون اكتراثٍ بفحواه شديد الوضوح، الفحوى الذي يكشف تراتبية المجتمع ومكانة المرأة المتأخرة في هذه التراتبية.
وأحلت ظاهرة المرأة المتقمصة للذات الذكورية إلى متلازمة استوكهولم، فمن فرط التعدّي على حقوقها، ومن فرط إهدار أبسط مقومات شخصيتها، تماهت نساء كثيرات مع السلطة الذكورية الاستبدادية، في علاقتهن مع أنفسهن، ومع بنات جنسهن، مع بناتهن على وجه الخصوص، ومع زوجات أبنائهن وإخوتهن، ومع الظواهر الاجتماعية الإشكالية، كالتحرش والاغتصاب والحجاب وحرية الجسد والفكر والمعتقد. وتبدو اليوم صفحات التواصل الاجتماعي ميزاناً شبه مؤكّد لقياس نسبة هذه الشريحة إلى عدد النساء في مجتمعاتنا العربية، ويا للهول: لا تبدو نسبتهن مما يمكن الاستهانة به أبداً، بل تبدو هذه النسبة مدعاةً لمزيد من الخوف مما ينتظر مستقبل هذه المجتمعات التي أخفى استبداد أنظمتها، وإجرام هذه الأنظمة، أساساً، أي ملمح لمستقبلها، على كل الأصعدة السياسية والثقافية والفكرية والاقتصادية، وبطبيعة الحال، الاجتماعية، حيث بنية المجتمع الحالية مثال أوضح عن بنيته في المستقبل. وفي حالنا لا شيء يبشّر بالخير.
لكن، ومع الانكشاف المريع لحال مجتمعاتنا العربية بعد الربيع العربي، وبعد انتشار وسائل التواصل وسهولة وصولها واستخدام الجميع لها، انكشف أن ما كان قرار لعب الرجل دور المستبد صار واقعاً وحقاً مكتسباً لا يقبل التنازل عنه، إذ من خلاله يمكنه أن يمارس السلطة التي على ما يبدو أن غالبية الرجال يحلمون بامتلاكها، على نساء محيطه: نساء بيته، عائلته، حارته، مذهبه، دينه، بلده. باختصار غالبية الرجال يحلمون أن يصبحوا زعيم القبيلة أو شيخها الذي يتحكم بحياة “حرائر” القبيلة و”جواريها” ومصائرهن، ومن هم “ملك اليمين”. وغالبية رجال مجتمعاتنا للأسف لا يرون النساء سوى “ملك اليمين”. لهذا، ربما كثيراً ما نقرأ في النقاشات الحادّة على وسائل التواصل: “هل تقبل أو هل تسمح لابنتك أو أختك أو زوجتك بفعل كذا؟”. إذ يفضح هذا التعليق الأكثر انتشاراً وضع المرأة في مجتمعاتنا، سواء تعيش هنا أو انتقلت إلى العيش في مجتمعات أخرى جعلت “رجل القبيلة” يشعر ببدء فقدان سلطاته، فازداد تطرّفاً وعنفاً وتمسّكاً بصلاحياته في التحكّم بما ملكت أيمانُه.
هل حركة الفيمينسيت ضرورية في مجتمعاتنا؟ هي أكثر من ضرورية، وعليها أن تكون أكثر فعاليةً وحركةً وتمدّداً، وهو ما لا تسمح به السلطة الحاكمة، السياسية والدينية، فحصول المرأة على حقوقها الكاملة، وأولها حقها في خيارات حياتها وجسدها وشكلها، هو أول ما يقوّض قوة هذه السلطة التي أكثر ما يفيدها بقاء القبيلة على حالها، وبقاء شيخ القبيلة بكامل قوته! حاولت هذه السلطة وستحاول قمع أي تحرّك للفيمنيست، عبر تشويه صورة ناشطاته، واعتبار نشاطهن نابعاً من مكان وحيد، هو “عقدة الرجل”، ومن مشكلاتٍ شخصيةٍ وأمراض نفسية تعاني منها الناشطة، لا من إيمان بضرورة التغيير، أو من ثقافةٍ ترى في خلخلة السلطة الذكورية أول بوادر التغيير.
ما الطريقة إلى ذلك في ظل هيمنة الاستبداد حالياً؟ أظن أن أول الطرق دعم الحركات النسوية في بلادنا، ولو بالتضامن المعنوي، هو في الإيمان بأن على كل امرأة منّا أن تدرّب نفسها على الشعور بأهمية أنها امرأة، وبحقها الإنساني في التعامل مع ذاتها، كما يتعامل الرجل مع حقوقه؟ هل هذا يلغي أن المواطنة هي الحل الأول لكل مشكلات مجتمعاتنا؟ حتماً لا، بل هو تأكيد على هذا المطلب الذي لا يمكن لأي تغييرٍ أن يحدث بدونه.
الكاتبة: رشا عمران / العربي الجديد