خلف طاولة كبيرة تعرض أشغالاً يدويةً ضمن بازار في فندق “الداماروز” في وسط دمشق، تنهمك سارة نخلة بالرد على طلبات زبائن يتوقفون خصيصاً للسؤال عما تبيعه، وتقدّم للجميع بابتسامة عريضة شرحاً عن منتجاتها التي تتنوع بين حقائب وأحزمة وأساور وحمّالات مفاتيح مصنوعة من الأقمشة والخيطان بشكل أساسي، ولا تغفل في نهاية كل حديث عن تقديم بطاقة صغيرة عليها اسم مشروعها “كبكوب“، مع روابط صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي.
أطلقت مشروعي نهاية عام 2018، من غرفة في منزلي. وبالرغم من أني درست الجغرافيا والموارد البشرية، إلا أن العمل اليدوي هو شغفي منذ الصغر، وهو ما دفعني لتأسيس هذا الكيان الخاص بي، واليوم أديره بنفسي من الألف إلى الياء مع بعض المساعدة من زوجي وصديقاتي، والأمر يشكّل لي متعةً حقيقيةً”، تقول الفتاة ذات الأعوام التسعة والعشرين في لقاء مع رصيف22.
تزداد المشاريع التجارية الصغيرة والمؤسسة حديثاً في سوريا، وأغلب أصحابها نساء وفتيات.
وعلى غرار هذه الفعالية، تزدحم قاعات عدد من الفنادق الكبيرة في دمشق كل أسابيع عدة، بمجموعة من أصحاب المشاريع الصغيرة والمؤسسة حديثاً، وأغلبهم من النساء والفتيات، وهم يعرضون منتجاتهم ضمن “بازارات” تستمر لثلاثة أيام أو أربعة، وتشكّل فرصةً مهمةً للقاء مئات الزبائن الوافدين من أنحاء المدينة وضواحيها.
وبالرغم من أن الموضوع ليس جديداً في دمشق أو في عموم البلاد، لا تصعب ملاحظة انتشاره بشكل أكثر دوريةً في السنوات الأخيرة، مع ازدياد واضح في المشاريع التجارية التي تعدّ هذه الفعاليات، إلى جانب مواقع التواصل الاجتماعي، الوسيلة الأكثر نجاحاً والأقل تكلفةً للتعريف بمنتجاتها وإقامة علاقات مباشرة مع المهتمين بها.
ثلاث جولات لرصيف22، في بعض هذه البازارات خلال الأسابيع الفائتة، كانت كافيةً لرصد طبيعة أغلب المشاركين، وهم من الشابات والفتيات الجامعيات، وكذلك البضائع المعروضة: أشغال يدوية، وأكسسوارات، ومنتجات للعناية بالبشرة والشعر، وأطعمة مُعدَّة منزلياً. من ساعات الصباح الأولى وحتى نهاية المساء، تبدو الأماكن أشبه بخلية نحل يحاول العاملون فيها خلق طرق مبتكرة لإنجاح أعمالهم التي يعتمدون عليها، ولو جزئياً، في تغطية تكاليف معيشتهم ضمن بلد يرزح القسم الأكبر من سكانه تحت خط الفقر.
ثلاث طرائق للتسويق والبيع
تتابع سارة شارحةً: “أعتمد على ثلاث طرائق للترويج لمشروعي: المشاركة في البازارات، وإدارة صفحات على مواقع التواصل وخصوصاً إنستغرام، ووضع جزء من المنتجات ‘برسم الأمانة’ في محال ضمن أكثر من محافظة للوصول إلى شريحة إضافية من الزبائن”.
ولكل من هذه الأساليب محاسنها ومساوئها، فالبازارات متعبة وقد لا تكفي عوائدها لتكون مربحةً بعد اقتطاع أجور الاشتراك، مع الأخذ بعين الاعتبار كون المنتجات التي تباع فيها “كماليةً” ولم تعد على رأس أولويات معظم السوريين بالرغم من أسعارها المقبولة نسبياً، وصعوبة وصول البعض إلى أماكن الفعاليات خاصةً مع أزمات الوقود والمواصلات المتكررة، لكنها في الوقت نفسه ضرورية للترويج للعلامة التجارية وبناء قاعدة من الزبائن، وهي فعّالة ضمن مواسم الأعياد بشكل خاص.
ومواقع التواصل، مع أهميتها وانتشارها، تحتاج إلى المتابعة الدائمة، وإنشاء شبكة فعّالة لتوصيل الطلبات بالاتفاق مع شركات مختصة وبأقل كلفة ممكنة، وهي تبلغ تقريباً ضمن دمشق 3،000 ليرة سورية (قرابة 75 سنتاً) للطلب الواحد كما تقول سارة.
أطلقت مشروعي نهاية عام 2018، من غرفة في منزلي. وبالرغم من أني درست الجغرافيا والموارد البشرية، إلا أن العمل اليدوي هو شغفي منذ الصغر، وهو ما دفعني لتأسيس هذا الكيان الخاص بي، واليوم أديره بنفسي من الألف إلى الياء والأمر يشكّل لي متعةً حقيقيةً
انطلاقاً من الشغف نفسه، بدأت سيلدا الحسين (21 عاماً) منذ بضعة أشهر بمشروعها التجاري المتخصص في صناعة الشمع، وتقول الفتاة المتخرجة من كلية الأدب العربي في لقاء مع رصيف22، ضمن إحدى الفعاليات: “بجهود ذاتية ومن خلال مصادر تعليمية تمكنت من إتقان صناعة الشموع، وأركّز على القطع الصغيرة وغير المكلفة كي يتمكن أكبر عدد من الناس من اقتنائها”، ومع يقينها بأنها تعمل ضمن مجال قد يراه كثيرون اليوم “رفاهيةً”، تهتم الشابة، في أثناء التواصل مع الزبائن، بالشرح عن فوائد الشموع وأثرها النفسي الإيجابي لتحفيزهم على الشراء.
وتشير سيلدا إلى أنها حتى اللحظة تفضّل الاعتماد على البازارات لتسويق بضاعتها، إذ إن مواقع التواصل تحتاج إلى جهد ووقت، سواء للرد على الرسائل أو التنسيق مع شركات التوصيل، مع كونها “العاملة والمسؤولة الوحيدة ضمن مشروعها”، لكنها ستكون “خطوةً لاحقةً بكل تأكيد” وفق تعبيرها. وتضيف بابتسامة: “سعيدة جداً بأنني أخيراً خطوت الخطوة الأولى في مشروعي، بتشجيع كبير من أهلي، وخاصةً والدي، وقد تكون الظروف صعبةً اليوم في سوريا لكني طموحة ومتفائلة بتطوره في الأشهر القادمة”.
أما دانا اللحام، وهي طالبة في السنة الرابعة في كلية الإعلام في جامعة دمشق، فاسترجعت منذ عام هوايتها في صناعة الأكسسوارات الملوّنة، وأعادت إطلاق مشروع كانت قد بدأته قبل سنوات تحت اسم “Accessories by Dana”، وتقول عنه في حديث إلى رصيف22: “يشكّل لي فسحةً للتسلية المفيدة، والتواصل مع الناس، وتحقيق بعض العوائد المادية”.
وتشارك دانا (28 عاماً)، في كثير من بازارات دمشق، وهي وسيلة مهمة كما تقول للترويج والتفاعل مع الزبائن، بالرغم من كونها “غير مجدية على الدوام من الناحية المادية”، كما تستقبل طلبات عبر الهاتف ومواقع التواصل، لكنها لم تتوسع في ذلك بعد بسبب صعوبات توصيل البضائع في الدرجة الأولى.
“المنزل هو مقرّ العمل”
تشترك “سيدات الأعمال الشابات” اللواتي تحدث رصيف22 إليهن، كما كثيرات من صاحبات المشاريع التجارية الناشئة، في كون أعمالهن انطلقت من “غرفة في المنزل”، فلا قدرة على استئجار مقرّ دائم، إذ لن يقلّ بدل الإيجار الشهري لأي محل في دمشق مهما كان صغيراً، عن خمسمئة ألف ليرة سورية (نحو 130 دولاراً وفق سعر الصرف في السوق الموازي)، وهو مبلغ كبير جداً لمشاريع تركز في معظمها على منتجات غير أساسية، وتالياً يكون خيار العمل “أونلاين” أكثر جدوى وسهولةً.
وبالرغم من المحاولات المستمرة لتقليل التكاليف، لا تزال معظم هذه المشاريع غير كافية لتكون مصدر الرزق الوحيد لصاحباتها، وإنما هي مورد دخل إضافي، وللأمر سبب جوهري آخر هو تناقص القدرة الشرائية لدى كثير من السوريين، وتالياً يصعب الاعتماد على هذه الأنواع من المنتجات بشكل مستدام.
البازارات متعبة وقد لا تكفي عوائدها لتكون مربحةً، مع كون المنتجات التي تباع فيها “كماليةً” ولم تعد على رأس أولويات معظم السوريين، وصعوبة وصول البعض إليها مع أزمات المواصلات المتكررة، لكنها في الوقت نفسه ضرورية للترويج للعلامة التجارية وبناء قاعدة من الزبائن
لكن الأهم كما تقول دانا، أن المشروع يتيح لها استثمار وقتها في عمل تحبه، وقد شكّلت منه أساساً، وتحلم بتوسيعه مستقبلاً وفق إمكاناتها. وضمن هذا السياق تضيف سارة: “لا زلت أعمل من منزلي، وبعد أربع سنوات، قطعت شوطاً مهماً في تعلّم أساسيات إدارة المشروع، وهو اليوم في طور النمو معتمداً على الأرباح التي لا أقيسها دوماً بالمعنى المادي وإنما أيضاً على صعيد الانتشار وبناء الاسم والسمعة”. وتختم بالإشارة إلى أن المتعة التي يحملها هذا النوع من العمل التجاري الشخصي، إلى جانب السهولة النسبية في إدارته وتنظيمه، يدفعان المزيد من الشابات في سوريا للانخراط فيه يوماً بعد آخر.
ازدياد ملحوظ
تشير نانسي عجلاني، وهي مديرة شركة “بريغما” التي تعمل في تنظيم المعارض والمؤتمرات منذ عام 2011، إلى “ازدياد واضح في أعداد المشاريع الصغيرة التي تديرها نساء وفتيات من مختلف الشرائح العمرية، وتعتمد على البازارات كواحدة من الطرق الأساسية لتسويق منتجاتها”، والسبب وفق رأيها أن المشاركة في فعاليات كهذه، خاصةً التي تقام في مواقع وسط العاصمة، غير مكلفة كثيراً وتشكل فرصةً مهمةً للترويج والبيع.
في كل فعالية ننظّمها، كل شهرين تقريباً، نرصد المزيد من المشاركات.
“في كل فعالية ننظّمها، كل شهرين تقريباً، نرصد المزيد من المشاركين والمشاركات الجدد، خاصةً السيدات والفتيات وطلاب الجامعة وطالباتها، ممن يعملون بشكل أساسي في منازلهم. واليوم تستحوذ منتجات العناية بالبشرة والشعر والعطورات والأكسسوارات على معظم طاولاتنا”، تقول عجلاني ذات الأعوام السبعة والثلاثين في لقاء مع رصيف22.
هذا الازدياد لا يعني السهولة المطلقة في العمل كما تشير المتحدثة، فتكاليف إقامة البازارات ترتفع عاماً بعد آخر، أسوةً بارتفاع أسعار السلع والخدمات كافة في سوريا، وفي الوقت ذاته تنخفض القدرة الشرائية للزبائن، فمن كان معتاداً على شراء 4 أو 5 قطع من كل بازار، قد يكتفي اليوم بقطعة واحدة. “لذلك نحرص قدر الإمكان على عدم رفع رسوم الاشتراك كثيراً، لأننا نعلم مدى أهمية هذه المشاريع لأصحابها وصاحباتها”.
زينة شهلا _ رصيف 22