ليست مسألة الولادات والزيجات غير المسجّلة استثناءً في المخيّمات السورية في لبنان. إنها، في الواقع، مسألة شائعة تخفي في طيّاتها أسباباً كثيرة ومعاناة تتواصل من جيلٍ إلى آخر.
“لم يعد هناك من أيامٍ لأحياها أكثر من تلك التي مرّت، ولا مستقبل أسوأ من الواقع الذي أعيشه… أسوأ من هيك ما بقى في، خوفي بس على هالبنت”، يقول أحمد (46 سنة) مشيراً إلى ابنته شام، الطفلة التي رمت الحرب السورية أوزارها على كتفيها النحيلتين، وهي لا تتجاوز السابعة.
أحمد لاجئ سوري، فرّ من الحرب السورية منذ نحو عشر سنوات قاصداً لبنان. هنا أسّس حياةً ليست بسوء الأولى، أصدر إقامة لاجئ وسكن في منطقة عرسال وعمل في البناء، وهي مهنته الأساسية… إلى أن انتهت إقامته، وهو عاجز عن دفع تكاليف تجديدها، عدا حاجته إلى بعض الأوراق التي يتعذّر عليه الاستحصال عليها من سوريا. فأحمد معارض للنظام السوري، فرّ من بطشه وهو يعلم أنّ عودته إلى حلب ستكون بمثابة نهايته.
على رغم ذلك، قرّر أحمد الزواج، فارتبط بفاطمة بعقد “برّاني” عند الشيخ بوجود شهود، إلّا أنهما لم يسجّلا الزواج في الدوائر الرسمية. وعليه، كانت شام (7 سنوات) ثمرة هذا الزواج وهذه المأساة. فشام طفلة لا تملك أوراقاً ثبوتية، استحصل والداها على شهادة ولادة لها من المختار، لكنّ ذلك لا يخوّلها عيش حياتها كأيّ طفل. بمعنى آخر، لا يمكنها الحصول على التعليم أو الرعاية الصحيّة. إنها مجرّد اسم بلا هوية… طفلة تتحمل أخطاء لا دخل لها فيها.
ليست مسألة الولادات والزيجات غير المسجّلة استثناءً في المخيّمات السورية في لبنان. إنها، في الواقع، مسألة شائعة تخفي في طيّاتها أسباباً كثيرة ومعاناة تتواصل من جيلٍ إلى آخر. وفق “مفوّضية اللاجئين”، 70 في المئة من السوريين المقيمين في لبنان انتهت إقامتهم ولا يستطيعون تسجيل أطفالهم في دوائر وزارة الداخلية اللبنانية.
الكثير من السوريين دخلوا بأساليب غير شرعية إلى لبنان عقب بدء الحرب السورية عام 2011، وعدد كبير منهم كانوا أصلاً من فاقدي الجنسيّة أو مكتومي القيد. دخلوا إلى الأراضي اللبنانية وهنا أنجبوا أطفالاً لم يستطيعوا تسجيلهم لأنهم أصلاً غير مسجّلين في بلادهم أو أنّ زيجاتهم غير مسجّلة، إنما تحصل بطريقة عرفية بوجود شيخ وشهود، فيبقى الزواج “برّانياً” ولا يتمّ توثيقه في دوائر الدولة. إضافةً إلى أنّ الكثير من السوريين فقدوا أوراقهم الثبوتية خلال الحرب ويصعب عليهم الاستحصال على أخرى بديلة وجديدة، فكثر منهم من المعارضين أو من الذين شاركوا في الحرب ضدّ النظام، أو أنهم هاربون من التجنيد الإجباري مثلاً. هذه الأسباب، تضافُ إلى غياب المعرفة القانونية الكافية وعدم توفر الإمكانات المادية لتسوية الأوضاع، ما يعرقل مهمّة الاعتراف الصريح بـ”سوريّة” مولودين على الأراضي اللبنانية، ليصبحوا مجرّد أسماء بلا جنسيّة في مفوّضية اللاجئين.
يشرح منسّق مخيّمات عرسال ماهر المصري لـ”درج” أنّ قضية مكتومي القيد في الـ177 مخيّماً التي يديرها، والتي تضمّ أكثر من 9000 خيمة، مرشحة للازدياد. يقول إنّ “الولادات في المخيّمات تُقدّر بـ1000 مولود سنوياً، جزء كبير منهم يحصل على إفادة ولادة من المختار عند ولادته، إلّا أنّ ذلك لا يُعتبر قانونياً إلّا إذا سُجّل المولود في سوريا. الأمر الذي يستلزم حضور صاحب العلاقة، وهو ما يصعب تنفيذه في كثير من الأحيان، أو توكيل محامٍ، والذي بدوره يتقاضى من 100 إلى 200 دولار أميركي مقابل تسجيل كل طفل، وهذا ما تعجز أُسر سورية كثيرة عن سداد كلفته”.
مشكلة مكتومي القيد لا تنتهي عند قضية الأوراق الثبوتية، فهؤلاء الأطفال هم أسرى مخيّماتهم، لا يستطيعون التنقّل بحريّة أو السفر، أو حتى التعلّم والعمل. “التعليم عبارة عن حقنة مخدّرة هنا في المخيّم”، يجيب المصري عندما سألناه عن حال التعليم بالنسبة إلى هؤلاء الأطفال. ويُضيف: “قدّمت وزارة التربية تسهيلات للأطفال السوريين تقضي بقبول المدارس بورقة مفوّضية الأمم من دون الحاجة لوثيقة رسمية، لكنّ الأمر موقت. ففي الصفوف الرسمية، يتطلّب الأمر أوراقاً ثبوتية”. الحلّ الذي طرحته الوزارة لتسهيل تعليم التلامذة في المخيّمات قصير الأمد، إذ إنّ الأمر لا يتعدّى “مهلة” تعطيها السلطات اللبنانية لأهل التلميذ السوري لاستحصال أوراق ثبوتية له خلال سنوات محدّدة، أما حين يصل الواحد منهم إلى الصف التاسع (البروفيه)، فلا يمكنه خوض الامتحانات الرسمية من دون أن يكون مسجّلاً في السجلات المدنية. وعليه، فإنّ أطفالاً كثر يتركون صفوف الدراسة مسبقاً، أو يحصّلون جزءاً محدوداً من التعليم بأحسن الأحوال.
جرائم نظام وتقصير دولة يتحمّلها أطفال…
لا توجد إحصائيات دقيقة لأعداد الولادات السورية منذ عام 2012 لأنّ غالبية دوائر الأحوال الشخصية توقفت عن العمل في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام السوري. إلّا أنّ تجاوز عدد السوريين في لبنان حاجز 1.2 مليون لاجئ، بحسب أرقام مفوّضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، زاد الأعباء الاقتصادية على الحكومة التي تعتبر نفسها عاجزة أمام هذا الكمّ من اللاجئين. ومن هنا، بدأت صيحات رسمية، منذ عام 2015، على لسان وزير الخارجية اللبنانية السابق جبران باسيل، طالب فيها المفوّضية بالتوقّف عن تسجيل المواليد السوريين خوفاً من تغييرات “ديموغرافية” قد تشهدها المنطقة.
على الصعيد القانوني، أصدرت السلطات اللبنانية قرارين لتسهيل الأوضاع القانونية للمواطنين السوريين المقيمين في لبنان: أوّلهما عن المديرية العامة للأمن العام لتسهيل شروط تجديد الإقامة للسوريين من خلال إعفائهم من شرط مغادرة لبنان لتغيير الكفيل، والثاني صدر عن مديرية الأحوال الشخصية، ويهدف إلى تبسيط إجراءات تسجيل وثائق الزواج والمواليد الجدد من خلال إعفائهم من شرط سند الإقامة في بعض الحالات. إلّا أنّ القرارين لا يُطبَّقان بشكلٍ منتظم.
في هذا السياق، تشرح المحامية ديالا شحادة أنّ “الأمن العام لم يعفِ معاملات الإقامة والدخول من شرط وجود وثيقة ثبوتية، ولكنه يتدخل مرّات في حالات القاصرين لتأمين عبورهم الحدود بمستندات بديلة (شهادة ولادة أو إفادة مختار مثلاً) بهدف لمّ شملهم مع ذويهم في سوريا”.
أقرّ مجلس الوزراء اللبناني في 8 شباط/ فبراير 2018 القرار 93 القاضي بتسجيل أيّ مولود سوري وُلد في لبنان، حتى وإن تخطّى عمره السنة، في دائرة وقوعات الأجانب ودوائر الأجانب في المحافظات اعتباراً من 1/1/2011، وإرسال لوائح بتلك الولادات إلى وزارة الخارجية والمغتربين، التي تقوم بتبليغها إلى الجهات السورية المختصّة، وذلك بناءً على الكتاب الذي قدّمه كلّ من وزير الدولة لشؤون النازحين (التي ألغيت لاحقاً)، ووزارة الخارجية والمغتربين ووزارة الداخلية والبلديات. حُدِّدت هذه الإجراءات في محاولة لضبط المخالفات، وكذلك لتسهيل عودة اللاجئين السوريين إلى سوريا وإعفائهم من المسار القانوني المُربك والمُكلف لعدد كبير منهم، “إلّا أنه لم تتمّ السيطرة على هذه المشكلة حتى الآن”، وفق شحادة.
عند سؤال جهات قانونية عن الإجراءات التي يجب أو يمكن أن تُتخذ لحلّ أزمة آلاف اللاجئين السوريين المكتومي القيد في لبنان، لم نحصل على إجابة واضحة، إذ إنّ هذه المعضلة يعود عمرها لسنوات، والمشكلة أنها تتضخّم مع كل مولود جديد، من أب مكتوم القيد، يأتي إلى هذا العالم.
“المسؤولية تقع أولاً على النظام السوري الذي تسبّب بطفرة اللجوء في لبنان وبتلف عدد كبير من الأوراق الثبوتية لهؤلاء اللاجئين خلال غارات النظام الجوية على مناطقهم، أو تصعيب حصولهم على بدلات، عبر رفع قيمة رسومها بشكل مطّرد وباهظ بالنسبة إلى السوريين اللاجئين المقيمين في المخيّمات. والمسؤول الثاني هو الدولة المضيفة بالتعاون مع مفوّضية اللاجئين، وذلك بحسب التزاماتهما القانونية الدولية”، تقول شحادة. كما أنّ ثمّة مسؤولية تترتّب بحسب ثبوت التقصير من عدمه على الوالدين، لا سيّما الوصي القانوني، الذي لا يستنفد الجهود لتسجيل مواليده أصلاً، فيحملون وزر أخطاء لا دخل لهم فيها.
ميريام سويدان _ درج