syria press_ أنباء سوريا
مع توالي الخسائر الاقتصادية السورية، بعد عشر سنوات عجاف دامية دفع ثمنها ملايين السوريين الذين ثاروا ضد نظام الحكم الأسدي الاستبدادي الطائفي الفاسد، تتزايد المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية في كامل الجغرافيا السورية التي مزّقتها حرب بشار الأسد وحلفائه من الروس والإيرانيين ضد أبناء الشعب السوري المنتفض منذ آذار/ مارس 2011 مناديًا بالحرية وسقوط النظام، وما تلا ذلك من صراعات مسلحة سورية-سورية، تغذيها الدول الإقليمية والدولية.
مشاكل اقتصادية يبدو أنها ستكون طويلة الأمد، فكل المؤشرات تذهب بالمحللين والخبراء الاستراتيجيين إلى أنّ حياة السوريين ماضيةٌ من سيئ إلى أسوأ مع انتهاء كل يوم واقتراب كل غد، وسط غياب تام للحلول وافتقار نظام بشار الأسد والدولة الوصية على (سوريا الأسد) لسبل معالجة ما يمكن الاصطلاح عليه بأنّه كوراث ونكبات بات من المستحيل حلّها. ولفهم ما جرى ويجري في المشهد الاقتصادي السوري المتشظي، يستضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة في هذا الحوار، المستشار والخبير الاقتصادي السوري أسامة القاضي (رئيس مجموعة عمل اقتصاد سورية)، لمناقشة الوضع الاقتصادي والسياسي في سورية، بعد تفاقم خسائر البلاد بسبب عوامل عديدة داخلية وخارجية، من ضمنها مؤسّسات مركزة على الصراع، معارك عسكرية، العقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية وفي مقدمتها “قانون قيصر”، والأزمة الاقتصادية اللبنانية، وغيرها من العوامل، وليس آخرها جائحة كورونا. وكذلك لتحليل وفهم أبعاد الوضع الاقتصادي الراهن وعلى المدى المنظور والبعيد، في ظلّ التدهور غير المسبوق لليرة السورية أمام العملات الأجنبية في تاريخ سورية الحديث، واستمرار التدهور المعيشي في مناطق سيطرة النظام خاصة، وفي مناطق نفوذ سلطات الأمر الواقع في شمال وشرق سورية. فكان هذا الحوار..
نستهلّ هذا الحوار بأسئلة حول الواقع الاقتصادي السور ي اليوم، سواء في مناطق سيطرة النظام أم في مناطق سيطرة المعارضة.
لم تمرّ سورية في تاريخها بمثل هذا العوز الاقتصادي
ماذا عن الأوضاع الاقتصادية الحالية في الداخل السوري، بخاصة في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، وتأثير هذه الأوضاع على بقاء بشار الأسد في السلطة؟
سورية عمليًا -مع الأسف- باتت مؤلفة من ثلاث مناطق نفوذ: منطقة النفوذ الروسي والأميركي والتركي، لذا عندما نتحدث عن الداخل السوري، علينا التفريق تبعًا للحيّز الجغرافي، بالنسبة إلى مناطق سيطرة النظام، فالناس اقتصاديًا محرومون من النفط السوري ومن ثلاثة أرباع القمح السوري ونصف القطن السوري، وانخفض النشاط الاقتصادي فيها لأقل من الربع، بسبب عوامل التهجير والقتل والنزوح، إذ خسرنا موارد بشرية يصعب تعويضها. وهربت رؤوس الأموال بشكل كبير خارج سورية باحثة عن مكان آمن للاستثمار، إضافة إلى تدمير الأرياف الذي أدى إلى انخفاض الإنتاج الزراعي أيضًا، إضافة إلى خسائر عائدات السياحة التي انعدمت.
وبسبب خروج معظم المعابر البرية خارج أيدي النظام السوري، ضعفت التجارة لحدود غير مسبوقة تاريخيًا، كل ما سبق شكل ضغطًا هائلًا على الاقتصاد السوري زاده تبديد مبلغ سبعة عشر مليار دولار، المبلغ الذي كان احتياطيًا لدى المصرف المركزي، من أجل دعم الآلة العسكرية التي حصدت أرواح ملايين السوريين وهجرت نصف سكان سورية من جهة، ومن أجل دعم الليرة السورية ضمن ألعاب بهلوانية للمصرف المركزي، بدّدت تلك الاحتياطيات بحجة الممانعة ضد “التآمر الكوني” على النظام السوري.
إنّ تعاطي النظام مع انتفاضة الشعب السوري من أجل الحرية والكرامة زاد في خلخلة التركيبة الطبقية الاجتماعية داخل سورية، وأدى إلى فناء الطبقة الوسطى المحاربة قبل الثورة السورية، حيث إن ما تبقى من برجوازية وطنية كانت أمام خيارين: إما النأي بالنفس عن ممارسة النشاطات الاقتصادية الكبيرة والمؤثرة خشية ملاحقة مؤسّسات أمنية متحالفة عضويًا مع “واجهات الأعمال” الفاسدة، إضافة إلى تضييق مؤسّسات قانونية حكومية تعمل كأداة لتثبيت مكانة الفاسدين وتسهيل أمورهم، وبالتالي تنكمش البرجوازية الوطنية التي تستثمر الثروات المالية والبشرية الوطنية، والتي تخلق فرص عمل وتنهض بالمستوى المعيشي للطبقة الوسطى وتتيح له الاستفادة من الخبرات الدولية في الإنتاج الوطني بمعايير دولية؛ وإمّا الانضمام إلى جوقة الأعمال الفاسدة والقبول بنسب فساد كبيرة وصغيرة للحفاظ على مكانتهم المجتمعية ومالهم من الضياع، وكانت الشركات القابضة السورية نموذجًا حيًّا على تلويث ما تبقى من البرجوازية الوطنية وتدمير الطبقة الوسطى السورية.
لقد تقلصت الطبقة الوسطى في سورية، بحسب الأمم المتحدة 2014، إلى النصف تقريبًا؛ من 56.5% في عام 2007 إلى 26% في عام 2014، والطبقة الوسطى السورية كانت تتقلص بنسبة 9%. ووصلت سورية في عام 2021 إلى وضع كارثي، حيث الدخل الرسمي لرئيس الوزراء ورئيس مجلس الشعب ونائب رئيس النظام والوزراء ما بين 200 و233 ألف ليرة سورية، ما يعادل اليوم أقل من 60 دولارًا! بمعنى أنّ أعلى راتب في الحكومة هو أقل من دولارين يوميًا، وهو خط الفقر بحسب تعريف الأمم المتحدة! فما بالك بأكثر من مليون ونصف موظف تراوح دخولهم الشهرية ما بين 10 و30 دولار شهريًا! ونسب البطالة أكثر من 70%!
لم يعد هنالك معنى في سورية اليوم لكلمة “البطالة” التي يعمل فيها السوري أكثر من نصف يومه، وهو لا يزال لا يجد قوت يومه، فضلًا عن شح الوقود والكهرباء والماء والخبز وغلاء الأسعار، وبذلك فإنّ القوة العاملة السورية باتت بمنزلة “عمّال سخرة”!
وهنالك انزياح كارثي في طبقات المجتمع السوري الذي بات بتقديري اليوم 60% منه تقريبًا ضمن الطبقة الفقيرة، و25% ضمن الطبقة المدقعة الفقر التي تتضور جوعًا، وأقل من 10% أدنى موقع في الطبقة الوسطى، و 5% من الميسورين، وهذا لا ينعكس فقط على تدمير بنية المجتمع السوري حاليًا، ولكن انعكاساته الخطيرة على مستقبل سورية حتى بعد الحل السياسي (الذي لا يبدو أنه قريب مع الأسف) ضمن التقسيم الواقعي لمناطق النفوذ الثلاثة في سورية الروسي والأميركي والتركي، بانتظار التقسيم الذي يبدو أنّ الدول ستتأخر في إعلانه، وهي تطالب بـ “وحدة” الأراضي السورية، والمقصود بها أنّ سورية موحدة تحت سيطرة القوة العسكرية الأجنبية النافذة، الوحدة تحت العلم الأجنبي.
ماذا عن اقتصاد المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في الشمال السوري، تحديدًا إدلب وريفها، وعن اقتصاد مناطق شمال شرق سورية الخاضعة لسيطرة “الإدارة الذاتية” الكردية؟
الإدارات الاقتصادية الحالية لا تغادر ثلاثة أنواع من الإدارات، بسبب أزمة الجغرافيا،
حيث إنّ إدارات مناطق النفوذ هي إما إدارة مركزية منهكة ومفلسة (نظام، روسيا، إيران، ميليشيات)؛ وإما إدارة ميليشيات اقتصادية (قوات سوريا الديمقراطية/ قسد – حكومة هيئة تحرير الشام/ هتش)؛ وإما إدارة غير مُمَكّنة (حكومة مؤقتة).
أما إدارة مناطق سيطرة الإدارة الذاتية التي تقع تحت النفوذ الأميركي فهي لا تعدو كونها إدارة ميليشيات اقتصادية، حيث إنها تدار بقوة عسكرية ميليشياوية، وبقاؤها مرهون برضى الولايات المتحدة، ولا تتحكم مؤسّسات الحكومة في القرار تبعًا للحاجة وتنفق بشفافية على المشاريع، بل إنّ صنّاع القرار ومسؤولي ميزانية حزب العمال الكردستاني PKK في سورية، هم أشخاص منهم “إبراهيم زيدان” الذي يتسلم البترول، و”هڤال ولات” في الجمارك، و”علي شير” المالية العامة، و”فؤاد محمد” المعروف بـ (أبو دلو) سمسار النظام لشراء النفط.
وضع السوريين المعيشي والاقتصادي في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية أفضلُ من مناطق أخرى؛ بسبب وجود بعض المعابر مع كردستان من جهة بحيث تؤمن الاحتياجات اللامة بسهولة، ولأنّ لديها موارد المصافي البدائية للنفط التي تقدر شهريًا بحوالي 120 مليون دولار، وهي عائدات من بيع بترول دير الزور وغيرها ولا تودع في بنوك، لأنه نظام ميليشيات، بل تذهب إلى ما سمّي (البنك الخفي) عند شخص “علي شير”. ولا يوجد ميزانيات حكومية بشفافية في مناطق (قسد) بل يخصص ربع الدخل أي حوالي 40 مليون دولار -بحسب “نضال إيبو” المسؤول المالي السابق في الإدارة الذاتية- لقائد قوات سوريا الديمقراطية “مظلوم عبدي”، كميزانية شهرية، في حين تبقى 80 مليون دولار، بيد المسؤول المالي العام للحزب “علي شير”، ولا يُعرف كيف وأين تصرف! ولا يوجد مؤسّسة حكومية تبيع النفط في هذه المناطق، إنما هي عبارة عن شبكة تتكون من “ياسر حزواني” و”القاطرجي” و”أبو دلو”، الذين يتلقون أوامرهم من كوادر حزب العمال الكردستاني “علي شير” و”إبراهيم زندان” و”شاهوز حسن” (من أكراد تركيا). ولا يوجد عمليًا سياسة اقتصادية واضحة لما سمّي الإدارة الذاتية، بل إن أمراء الحرب، والمتحكمين في قرارات الحزب، هم من يسيطرون على الأسعار ويتحكمون في المستوى المعيشي للسوريين.
في هذا السياق، ماذا عن السياسات والقرارات التي تتّخذها الحكومة السورية المؤقتة، وليس آخرها إصدار قرار يمنع المواطنين من تداول العملة النقدية من فئة 5000 التي أصدرها نظام الأسد في كانون الثاني/ يناير 2021؟
إنّ الحكومة المؤقتة السورية تندرج تحت الإدارات غير المُمكّنة، فهي لا تملك ميزانيات، ولا تملك قرارها الاقتصادي، ولا تسيطر على أي قطاع اقتصادي، ولا علاقة لها بالإغاثات (إلا من حيث التنسيق أحيانًا قليلة) ولا بالمعابر، ولا يوجد عمليًا تشريعات اقتصادية، وإن وجدت لا يوجد قوة تلزم السوريين باتباعها، فمثلًا كل صرّاف في مناطق الحكومة المؤقتة لديه فصيل يحميه، وليس الشرطة المحلية. حتى إن موظفي الحكومة والجيش الوطني والمجالس المحلية والهيئات القضائية والعاملين في التعليم والصحة وغيرهم يتلقون رواتبهم مباشرة من الحكومة التركية صاحبة منطقة النفوذ، لأنّ مناطق ما يعرف بـ “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام” تعود إداريًا للولايات التركية.
تتدخل الحكومة التركية بشكل مباشر، حيث تم إنشاء “رئاسات فرق العمل لدعم الخدمات الصحية السورية” داخل هيئة مديريات الصحة في محافظات كيليس وغازي عنتاب وهطاي وشانلي أورفة، لدعم الخدمات الصحية اللازمة في مناطق عمليات “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام”، وتم تقديم خدمات صحية مختلفة حاليًا في خمس مستشفيات بإجمالي 750 سريرًا في الراعي وإعزاز والباب، و75 سريرًا في مارع وجرابلس.
مشكلة التدخل الحكومي التركي أنه يتجاوز الحكومة المؤقتة، وقد ينسّق معها أحيانًا، حيث إن الحكومة التركية هي من قام بتجهيز 684 مدرسة في منطقة “درع الفرات” بدعم وزارة التعليم التركية، وليس من ميزانية الحكومة المؤقتة، كما قامت بتقديم خدمات تعليمية إلى 192 ألف و569 طالبًا في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية، وطبعًا رواتب الكادر التدريسي والعاملين لا تمرّ عبر الحكومة المؤقتة. وكذلك قامت الحكومة التركية بترميم أكثر من 400 مسجد في منطقتي “درع الفرات” وعفرين، على نفقة “وقف الديانة التركي”.
إضافة إلى ما قامت به جامعة غازي عنتاب من أنشطة التعليم العالي شمال سورية، بموجب مرسوم رئاسي تركي، حيث جرى تأسيس كليتين ومدرسة مهنية واحدة في منطقة “درع الفرات” تتبع للجامعة، مع مراعاة توفير الاحتياجات التعليمية في المنطقة بما يتماشى مع متطلبات المجالس المحلية، وبطبيعة الحال تلك الاحتياجات التعليمية لا تقدّمها الحكومة المؤقتة بل الحكومة التركية التي قد تستشير وزير التعليم في الحكومة المؤقتة، ليساعدها في تقدير الاحتياجات، وقد تتواصل مباشرة مع المجالس المحلية متجاوزة الحكومة المؤقتة.
كل الدول التي مرت بظروف مشابهة من تدهور العملة والتضخم الجامح ومراحل انتقال مهمة في حياتها يلجأ تجارّها إلى تسعير المواد بسعرين: العملة الوطنية وعملة دولة مستقرة، وعادة ما تكون الدولار.
الدولرة (أو ما يسمى استبدال العملة) هي عمليًا استخدام عملة أجنبية، بالإضافة إلى العملة المحلية كعملة قانونية، وتحدث (الدولرة) عادة في البلدان النامية ذات الحكومة المركزية الضعيفة، أو البيئة الاقتصادية غير المستقرة التي تعاني حالة تضخم كبير (سورية 1200 %) ويتم استبدال التعامل بالعملة المحلية بعملة مستقرة تاريخيًا، مثل الدولار الأميركي أو اليورو، لإجراء معاملاتهم اليومية، و(الدولرة) يمكن أن تكون كاملة أو جزئية، كما يحدث في لبنان حيث يتم التسعير بالدولار والليرة اللبنانية. وتحدث (الدولرة) الكاملة بعد أزمة اقتصادية كبيرة، كما في حالات الإكوادور والسلفادور وزيمبابوي، فمثلًا اعتمدت بنما الدولار عام 1904، بعد وقت قصير من استقلالها عن كولومبيا، بعد قرن تقريبًا، ثم حذت الإكوادور والسلفادور حذوها، حيث قامت الإكوادور بالتبديل في عام 2000، ثم السلفادور في عام 2001. ومن إيجابيات عملية (الدولرة) الحصول على فوائد الاستقرار الأكبر في قيمة العملة الأجنبية على العملة المحلية للبلد، ولكن الجانب السلبي للدولرة هو أن البلاد تتخلى عن قدرتها على التأثير في سياستها النقدية الخاصة، من خلال تعديل عرض النقود.
في الوضع السوري، يمكن أن يكون الدولار أو الليرة التركية أو ربّما الروبل الروسي عملة مستقرة يتم اللجوء إليها، لكن بشرط أن يكون إلى جانبها بقاء العملة الوطنية، ولا يجب منع تداولها، وبخاصة أن هناك مواطنين سوريين يقبضون بالليرة السورية ويتعاملون بهذه العملة، فضلًا عن البعد الوطني لاستخدام عملة محلية.
كان موقف الحكومة المؤقتة قبول تداول العملة التركية التي هي أصلًا يتم تداولها استجابة لضخ الحكومة التركية كميات الليرة التركية من رواتب للعاملين، فكان يتم تداولها بكميات كبيرة، وقرار الحكومة المؤقتة -في ما أعلم- كان بمنع تداول فئة 5000، لمظنّة أنها طرحت كميات مزورة من العملة، ولكن إلى الآن السوريون يتداولون العملات التركية والسورية والدولار، في منطقة النفوذ التركي، والأمور باتت أسهل بعدما افتتحت مؤسّسة البريد التركي فروعًا في مناطق جرابلس والباب وإعزاز ومارع، وسهلت على المواطنين عمليات افتتاح حسابات مصرفية ودفع الفواتير وإيداع الأموال وسحبها وإرسال واستلام الحوالات المالية. وهنالك قرابة خمسة ملايين في مناطق تحت النفوذ التركي، أربعة أضعاف من يقطنون في مناطق النفوذ الأميركي، أوضاع غالبهم فوق خط الفقر بقليل، بسبب قربها للمعابر التركية وسهولة إدخال المواد والتحويلات المالية، ومساهمة المؤسّسات الإغاثية، ولكن المشكلة هي أنّ هنالك مناطق نزوح كبير تحتاج إلى سكن حقيقي، وأولادها يحتاجون إلى مزيد من الخدمات وخاصة التعليمية والصحية ولا تتمتع بالأمان الكافي. لا يمكن ضمان استقرار المنطقة والنهوض بها اقتصاديًا، ما لم يكن هنالك صفقة سياسية نهائية، قد تكون جزءًا منها أن تكون تركيا مسؤولة رسميًا عن تلك المنطقة، وبحدود جغرافية محددة يُسهل دخول الاستثمارات التركية والسورية وغيرها، وتشكل منطقة آمنة حقيقية وربما تلتحق فيما بعد بالدولة التركية رسميًا، بحسب تفاصيل الصفقة التي لا يأخذ أحد رأي السوريين بها أصلًا، ولكن إلى أن تتم تلك الصفقة لا يمكن دخول استثمارات حقيقية تنهض بالمستوى المعيشي للسوريين في تلك الجغرافيا السورية.
(سورية الأسد) في 2021 أفسد دولة على وجه الكوكب
هل صحيح ما يشاع: أنّ حكومة النظام تقوم حاليًا بما يسمى بـ “التمويل بالعجز”، وهو طباعة أوراق نقدية من دون وجود غطاء، وأنّ مجموع عجوزات النظام خلال سنوات الثورة بلغ حوالي 7.4 ترليون ليرة؟
أمام حالة انسداد الأفق الاقتصادي أمام النظام السوري، وحرمان الخزينة السورية من الموارد الاقتصادي المحلية وتشظي الاقتصاد السوري؛ لا تملك حكومة بشار الأسد الحالية للاستمرار في الحياة الاقتصادية سوى التمويل بالعجز، والاكتفاء بالاستدانة، الأمر الذي يُدخل سورية في تضخم “جامح” (هايبر إنفليشن)، فالتمويل بالعجز تضخمي الشكل، حيث يزيد من عرض النقود فيزداد الطلب على السلع والخدمات وارتفاع معدلات التضخم، وتلجأ إليه الدول المستقرة مؤقتًا، ضمن سياسات واضحة وحازمة، ولديها أجهزة وسياسات مالية ونقدية تراقب الأسواق وحاجتها، وتحرص على تحاشي الآثار التضخمية وتتعامل معها بحذر، خلاف حالة نظام الأسد الذي لا يملك موارده الطبيعية ولا جغرافيته، فضلًا عن ضعف أدواته النقدية والمالية التي تمكّنه من التحكم في معدلات التضخم الحقيقية.
الموازنة العامة للدولة السورية كانت دائمًا تعاني عجزًا يتمثل في زيادة النفقات العامة على الإيرادات العامة، ويمول العجز بالاعتماد على زيادة الإصدار النقدي والتوسع في الائتمان المصرفي الممنوح للحكومة، أو ما يسمى التمويل بالعجز، وبلغت نسبة عجز الموازنة إلى إجمالي الموازنة العامة للدولة 20% في عام 2011، و22% عام 2010، ويتم تغطية ذلك العجز عن طريق الاقتراض من الخارج، والاقتراض من الداخل عن طريق إصدار أذونات وسندات خزينة.
ربما تصلح مراقبة سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار للاستئناس به، حيث يعكس حالة مخففة من معدلات التضخم الذي تجاوزت 50% سنويًا منذ عام 2011، حتى وصل تقريبًا إلى 6700% ما بين عامي 2011 و2021، وهو رقم التضخم الجامح الذي وصلت إليه الكونغو الديمقراطية عام 1992 والذي استمر 12 شهرًا. واقع الأمر أنّ استمرار تضخم بمعدل 50% كل عام يعني أنّ سعر الليرة السورية عام 2025 سيصل إلى 14500 ليرة للدولار الواحد، وعندها سيصل التضخم ما بين 2011 و2025 إلى 29000%!
إنّ النظام السوري لا يلجأ إلى التمويل بالعجز فحسب، بل لجأ إلى الإتاوات تحت مسمّيات رسوم وضرائب تُفرض مرّة باسم رسوم دخول، ومرة باسم تجديد جواز سفر، ورسوم بدلات نقدية للإعفاء من “الخدمة الإلزامية” تصل إلى 8000 دولار للشخص، تحت طائلة الحجز على أملاكه هو وأهله وأولاده! وتم إصدار عشرات القوانين من أجل استملاك عقارات المهجرين واللاجئين، وهي أشبه بمكوس القرون الوسطى التي تزيد من فقر الفقراء، وتجمّد أي نشاط اقتصادي.
إن هذا “الدعم الدولي” الهائل من حلفاء الأسد أوصل الوضع في مناطق سيطرة النظام إلى مرحلة مؤسفة، حيث أصدر النظام مرسومًا تشريعيًا رقم 23 لعام 2019 بزيادة الرواتب عشرين ألف ليرة، أي 6 دولارات (3300 ليرة = دولار واحد 21 شباط/ فبراير 2021)، ويرفع “المرسوم” المخجل راتب نائب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ليصل إلى 233 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل 70 دولارًا! ووزراء الحكومة 200 ألف أي 60 دولارًا! ورواتب المحافظين 153 ألف ليرة أي 46 دولارًا! فما بالك بالموظف العادي الذي يراوح راتبه ما بين 10 و25 دولارًا!
ما الأسباب الحقيقية لتسارع انهيار الليرة السورية أمام العملات الأجنبية إلى أدنى مستوياتها، وقد فقدت -بحسب تقديرات غير رسمية- أكثر من 300 بالمئة من قيمتها؟ وكيف تنظرون إلى السياسات التي اتبعها نظام الأسد لدعم الليرة في السنوات الأخيرة؟
إنّ سعر العملة الوطنية لا يدعمه سوى حجم السلع والخدمات التي تنتجها تلك الدولة، وبطبيعة الوضع الكارثي الاقتصادي السوري وخسارة أكثر من 300 تريليون ليرة سورية، من ناتج الدخل القومي السوري، على مدى عشر سنوات، وهبوط النشاط الاقتصادي الكلي بطريقة مرعبة بسبب انعدام الأمن، وتقطيع الأوصال بين المحافظات السورية، فما زاد في الانهيار هو ضعف الدول الحليفة اقتصاديًا كونها هي نفسها تشملها العقوبات الاقتصادية، وجاءت جائحة كورونا لتزيد الضغط على اقتصاديات تلك الدول، وكذلك الضائقة الاقتصادية التي يعيشها لبنان، وتحديد سقف للسحوبات بالعملة الأجنبية، حيث ضيّق ذلك على رجال الأعمال السوريين والصناعيين وأسهم في انخفاض الإنتاج الصناعي والتجاري بشكل أكبر.
إضافة إلى المرسوم “القاتل”، وأقصد المرسوم رقم 3 الذي صدر في كانون الثاني/ يناير عام 2020 والذي يمنع تداول غير الليرة السورية، تحت طائلة السجن سبع سنوات مع “الأشغال الشاقة”، والذي أصاب ما تبقى من نشاط اقتصادي في مقتل، وهو بمنزلة إطلاق النظام الرصاص على رجله والانتحار البطيء، ويحسب “عباقرته” أنهم يُحسنون صنعًا! وهو بذلك ضيّق الخناق على تحويلات العاملين السوريين إلى أهلهم في الداخل، وهي تراوح سنويًا ما بين 1.5 و2 مليار دولار. وزاد الطين بلة صراع النظام السوري مع منظومة “رامي مخلوف” الوكيل الحصري للاقتصاد السوري لمدة عشرين عامًا، والتي تحوي أكثر من مئة من “واجهات” رجال الأعمال، ما بين “الشام القابضة” و”دمشق القابضة”، فضلًا عن تغلغله في الأجهزة الأمنية والعسكرية، حيث اضطرت تلك الثلة من “رجال الأعمال” إلى تخفيف أو إيقاف نشاطهم الاقتصادي المحدود، لأنهم لم يعودوا يأمنون على أنفسهم بعد أن طال الصراع رأس المنظومة، فأسهم ذلك في انشقاق شاقولي في منظومة فساد عمرها خمسون عامًا، وتوسعت شقوقها المالية والعائلية حتى نالت انشقاقات داخل الطائفة الواحدة، ومن ذلك تحريض “رامي مخلوف” الذي ظهر بمظهر الشيخ الحكيم المؤمن الذي يدعو طائفته للوقوف إلى جانبه في “محنته”.
حمّل بشار الأسد، نهاية العام الماضي، مسؤولية انهيار الليرة والتدهور الاقتصادي في سورية، لرؤوس الأموال المحلية التي أودعت أموالها في المصارف اللبنانية، التي قدّرها (الأسد) بمبلغ يراوح بين 20 إلى 40 مليار دولار، حيث اعتبر أنّ العقوبات المفروضة على سورية لم تؤثّر في سعر صرف الليرة، خاصة أنّ الأزمة الاقتصادية بدأت الظهور قبل دخول “قانون قيصر” حيّز التنفيذ. سؤالنا: ما مدى صحة أقوال الأسد هذه، ومن المسؤول الأول عن التدهور الاقتصادي في البلاد؟
المسؤول الحقيقي عن الانهيار الاقتصادي هو النظام الذي جعل من منظومة “رامي مخلوف” الوكيل الحصري للمشاريع السورية على مدى عقدين، وسبقه أبوه مع مجموعة من الفاسدين بأربعة عقود، وهو الذي جعل سورية قبل الثورة 2011 واحدة من أفسد أربعين دولة في العالم، وجعلها عام 2021 أفسد دولة على وجه الكوكب!إن صحيفة (براڤدا) الناطقة باسم الحزب الشيوعي الروسي، حليف النظام السوري الأول، نقلت مقالة تصدرت الصحيفة في 14 نيسان/ أبريل 2020، بعنوان “الفساد في عشيرة الأسد”، وقالت إن “رامي مخلوف” يسيطر على 60% من اقتصاد سورية، ويتدخل في سياسة المنطقة الإدارية الخاصة، ويؤثّر على طريقة الحياة الاقتصادية في البلاد، قبل اندلاع الحرب، وتحدثت عن استثماراته في السياحة والمطاعم والعقارات عبر شركة “شام القابضة”، وتناولت دخوله في استثمارات البنود الخاصة مثل “البنك الإسلامي السوري”، واحتكاره الاتصالات عبر شركة “سيرياتيل”.
كما كشفت (براڤدا) أنّ “حافظ مخلوف” (شقيق رامي) وهو ضابط في مخابرات الأسد، يمارس التجارة في مجال العقارات، وخرج من سورية عام 2014، واشترى شققًا فاخرة في العاصمة الروسية، موسكو، عام 2019 (19 شقة) بملايين الدولارات، ووصفت الصحيفة ماهر الأسد بـ “تاجر الدم ومجرم الاقتصاد”، مؤكدةً أنه يهيمن على 15% من اقتصاد سورية، و”يداه ملوثتان بالدم”، ومتورط في قتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، عام 2005، وذكرت أنه حصل على مليار دولار لمشاركته في الالتفاف على العقوبات الدولية ضد الرئيس العراقي الأسبق، صدام حسين.
وبحسب الصحيفة، فإنّ اللواء “ماهر الأسد” (شقيق بشار) هو قائد “الفرقة الرابعة” في الحرس الجمهوري، ويعتمد اقتصاده على شخصيات كـ “خالد قدورة” في الاتصالات، ورجل الأعمال “محمد حمشو”، الذي كان يبتز الشركات العاملة في البناء ويأخذ منها حصصًا، وهو (حمشو) متورط في غسيل الأموال المخصصة للحرب بإشراف وحماية ماهر. وإنّ الأموال المهربة إلى لبنان هي نتيجة طبيعية لمزيج من عدم الأمن والفساد والتشريعات المنفرة من سورية، خاصة آخر عشر سنوات، والنظام المسؤول الوحيد عن فقدان الثقة بالاقتصاد السوري والمصارف السورية وتعريضها لكل العقوبات الدولية التي تخيف رؤوس الأموال. وقد صرّح رأس النظام بنفسه بأنّ أسباب انهيار الاقتصاد السوري ليس عقوبات “قيصر”، بل هو الفساد وتهريب ما بين 20 و40 مليار دولار للمصارف اللبنانية.
الاقتصاد السوري دخل في حالة تفكيكية فوضوية عبثية
ذكر خبراء اقتصاد سوريون أنّ “السوق النقدية السورية تدار بطريقة “مافيوية” مخالفة للمنطق الاقتصادي”، وأن المصرف المركزي يُستخدم “كأداة في يد قوى تتلاعب في السوق، وتعمل على تشليح المواطنين أموالهم الخاصة”. هل لديكم تفاصيل أكثر حول هذا الموضوع؟ وكيف يتم ذلك؟ ومن قِبل من تحديدًا؟
واقع “المركزي السوري” أنه فقد دوره بشكل كبير، ولم يعد أكثر من فرع أمن يملك محل صرافة كبير يحتكر سوق الصرافة، ويفرض أسعاره بقوة الأمن والبطش وإغلاق محال الصرافة، ويزج الصرافين في السجون بحجة “ضبط” سعر الصرف. في زمن محافظ المصرف “أديب ميالة”، كان يقوم بالمزاودات مع مجموعة صرافين على مبالغ الدولارات وفرض سعر معين من خلالهم، ووعد وقتها (ميالة) بألا يتجاوز سعر الدولار سقف 300 ليرة سورية، ولكنه تخطّى سقف 4000 ليرة، لأنّ التلاعب على السعر الحقيقي لا يمكن أن يتم مدة طويلة، فسرعان ما يقترب من سعره الحقيقي المنخفض. إن واقع أمر “المركزي السوري” بعد أن نالته عقوبات “قيصر” بات التعامل معه يعرّض المتعامل للعقوبات الدولية، بحيث لا تستطيع أي دولة أن ترسل مبالغ لـ “المصرف المركزي”، من قبل أي بنك مركزي حليف للنظام. وإنّ إحدى مهماته الإشراف على طباعة عملة لا قيمة لها بفئات 5000، و10000، والمتوقع السنة القادمة طباعة ورقة العشرين ألف، استجابةً للتضخم السوري الجامح، من دون أن تكون هناك أي خطوة استراتيجية حقيقية للخروج من هذا المأزق السياسي والاقتصادي، بل تفضيل العقلية الأمنية والعسكرية وتكريس روح “تحدي” الشعب السوري “للتآمر الكوني”، و”الصمود” فارغ المحتوى الذي لا يجلب سوى الشقاء للشعب السوري في تغريبته الداخلية والخارجية.
برأيكم، لماذا عمل بشار الأسد على استبدال منظومة رجل الأعمال البارز “رامي مخلوف” (ابن خاله) وسعى للتخلص من واجهة الاقتصاد السوري القديمة؟
يبدو أنّ هنالك توجهًا روسيًا لاستبدال منظومة “رامي مخلوف”، كي يسهل تغلغل الشركاء الروس الجدد، لأنها جاءت بعد نشر مقال صحيفة (براڤدا) في 14 نيسان/ أبريل 2020، وهي بذلك تسهل تغلغل رجال الأعمال الروس في المشاريع الأقل استراتيجية من النفط والغاز والفوسفات، خاصة أنّ “رامي مخلوف” وواجهات رجال الأعمال المتحلقين حوله لم يتركوا مفصلًا من مفاصل الاقتصاد إلا دخلوا به، وهي كذلك جزء من دفع المستحقات للروس، فبدل بناء وتأسيس مشغل خليوي جديد، يمكن تغيير اسم شركة “سيرياتيل” والبدء بشركة فيها ملايين المشتركين دون أي عناء، وكذلك باقي النشاطات الاقتصادية.
أمام الضغط الروسي من اتهام نظام الأسد بالفساد، في أهم صحيفة روسية، كان لا بد من أحد كبشي فداء إما “رامي مخلوف” وإما “ماهر الأسد”، ففضل رأس النظام البدء بـ “رامي مخلوف”، ليثبت للروس حسن نياته في القضاء على الفساد، وأعتقد أنّ دور إزاحة “ماهر الأسد” سيكون قريبًا، خاصة أنه (ماهر) يشكل واجهة إيرانية، وتمّ تأسيس “الفيلق الخامس” الروسي من أجل الوقوف في وجه “الفرقة الرابعة” التي يقودها “ماهر الأسد”.
بطبيعة الحال، لأسباب عائلية، لم تكن “أسماء الأسد” لتفوّت فرصة ظهور انتصاراتها على “آل مخلوف”، وتظهر بصورة المتصدر للمشهد الاقتصادي بدل “رامي مخلوف”، ولكن سرعان ما ستظهر بعد حين القوة الحقيقية التي ستكون بدل “رامي مخلوف” و”ماهر الأسد”.
هل يمكن اعتبار الاقتصاد السوري اليوم “اقتصادًا عسكرياتيًّا”؟ وكيف يمكن أن يُسهم الانتقال السياسي السلمي في إخراج سورية من هذا الواقع الكارثي؟
في ظل الوضع الكارثي السوري، لم يعد هناك معنى للحديث عن الاقتصاد كمفهوم مركزي وطني، وتعافيه سيكون صعبًا جدًا -إن لم يكن مستحيلًا- بعد انتهاء الأزمة من دون حل سياسي عادل ودولة قانون وعدل وحرية. إنّ النموذج السوري بات فريدًا في سمته الاقتصادية والإدارية المفككة واللامركزية؛ إذ انتقل من واقع “الاقتصاد السوري” إلى واقع “اقتصاد النواحي السورية”، وهو أخطر النماذج؛ ما سيجعل مهمة أي حكومة انتقالية قادمة، في ظل أي حل سياسي أو غير سياسي، غايةً في الصعوبة، فقد باتت معظم النواحي والمناطق السورية مثل جزرٍ منفصلةٍ غير مرتبطة عضويًّا بأي إدارة مركزية.
اقتصاديًّا، مشكلة سورية الرئيسية اليوم هي وجود شلل جزئي أو كلي، أصاب بشكل متفاوت كل القطاعات الاقتصادية على المستوى الوطني، فقد خرجت السلة الغذائية من يد الحكومة المركزية، وكذلك خرجت تقريبًا كل ثروتها النفطية والغازية، وخسرت سورية أكثر من نصف قوتها العاملة المهنية والمؤهلة، وفي بعض الاختصاصات الطبية والهندسية والنادرة -تقديريًّا- لم يبقَ إلا أقل من عشرين بالمئة منها، وهذه الخسارة البشرية لا تُقدَّر بثمن. وكذلك خرجت عن السيطرة تقريبًا كل معابرها التي تدرُّ دخلًا لا يستهان به، وتضبط به مستورداتها وصادراتها، والاقتصاد السوري دخل في حالة تفكيكية فوضوية عبثية، انتهى الأمر به للعودة إلى اقتصاد النواحي والمناطق، بل إلى مرحلة الاقتصاد العائلي البدائي، بهدف أن يبقى الناس على قيد الحياة.
إنّ سورية تعيش أسوأ من اقتصاد الحرب، لأنّ إدارة الاقتصاد في زمن الحرب تبقى تحت سلطة مركزية، وعلى فرض وجود إدارات مستقلة، إلا أنها تكون بعلم السلطة المركزية، وتخضع لقوانين اقتصادية يلتزم بها الشعب، وتكون هناك سلسلة قوانين تقشُّف وقوانين “شد الحزام”، ولكن في الواقع السوري تم تحييد السلطة المركزية، لّأن القوى المسلحة الشعبية تعاني حالة اصطفافات متناحرة لا تستطيع معها السلطة الحفاظ على الأمن والاستقرار، بل إنّ السلطة الحاكمة في سورية تحارب قطاعات عريضة من الشعب، وتعدها خصمها اللدود الذي يستحق القصف بالأسلحة الكيمياوية والعنقودية والفوسفورية وغيرها، وتسلِّط فئة من الجيش على الشعب ليدمروا البيوت فوق رؤوس أهلها. ولذا؛ أميل إلى تسمية هذا النوع من الاقتصاد “اقتصاديات نيرون”، وهو المثال الوحيد الذي حدث عام 64 قبل الميلاد، أي منذ أكثر من 2000 سنة، عندما جلس المختل عقليًّا، نيرون، يتفرج على حريق سبعة أحياء في روما، كي يعيد بناءها بطريقة جديدة، ومن ثم اتهم المسيحيين بارتكاب الجريمة، على عكس دعاية النظام السوري الذي يفخر بإنجازات “حماة الديار” بقصفهم للمباني فوق رؤوس أهلها وللأفران والمشافي وأكثر من 1400 مسجد. إن هذا الوضع يحتاج إلى ما لا يقل عن خمس سنوات، بعد أي حل سياسي، وبعد كبح الآلة القمعية المسلّطة على رؤوس السوريين، من أجل استعادة دوران عجلة النمو الاقتصادي.
قمنا في (مجموعة عمل اقتصاد سورية) بإعداد شرح تفصيلي لإمكانية النهوض بكل القطاعات الاقتصادية، عبر ثلاث خطط إسعافية لمدة عام واحد، ومتوسطة لمدة سنتين، وطويلة الأمد لمدة خمسة سنوات، ولكن تلك الدراسة اليوم بحاجة إلى التجديد والتحقق من أنّ الحل السياسي هو فعلًا وحدة الأراضي السورية دون تواجد أجنبي. أما في ظل الواقع التقسيمي لثلاثة مناطق نفوذ، فربما نحتاج إلى سيناريو يخاطب هذا الواقع، لأن نهاية هذا الواقع قد تكون التقسيم الفعلي، ويكون سيناريو ألمانيا الغربية التي كانت عبارة عن ثلاث مناطق نفوذ (بريطانية وفرنسية وأميركية)، ثم توحدت بعد أربعين عامًا.
سنّ بشار الأسد أكثر من 1200 مرسوم تشريعي وقانون، بين عامي 2000 و2010، كانت تؤذن بانفتاح اقتصادي في مناخ عامّ يشوبه الفساد وانعدام الشفافية، وكانت كبرى العقود التي تجلى فيها الفساد بأشنع أشكاله، حيث تَمَوْضَعت سورية في المرتبة (129) من أصل (182) دولة، من حيث الفساد عام 2011، وهذا يعني أن تكون (دولة فاشلة)؛ حيث كانت الدولة رقم (49) من أصل (177) على (قائمة الدول الفاشلة) لعام 2011 أيضًا. فعن أي إصلاح كانوا يتحدثون في (جمهورية الابن الوريث)؟
كتبتُ قبل الثورة عن التشريعات الكثيرة التي صدرت، وقلت في ذلك الحين إنّ هنالك “تخمة في التشريعات وسوء هضم تنفيذي”؛ إذ لم يكن بإمكان الجسد البيروقراطي المترهل أن يستوعب كل هذا الكم من القوانين، بينما كان لا يصدر الأسد الأب سوى مراسيم معدودة سنويًا، وتميزت التشريعات التي صدرت بأنّ معظمها مفصّل على مقاس منظومة “رامي مخلوف”، سواء “الشام القابضة” أو “دمشق القابضة”، فضلًا عن أنّ تنفيذها يتم بشكل انتقائي بحسب “المزاج المخلوفي”.
في تلك المرحلة، قمت بإطلاق شعار وهو “الإصلاح شرط إبقاء المفسدين”، وكانت هذه سمة الإصلاح الذي أراده النظام في ذلك الحين، وكان لديه أدوات لتطبيق ذلك الشعار، من خلال فريقه الاقتصادي حينذاك، حيث أرادوا تطبيق “سوق الاقتصاد الاجتماعي” على “المزاج المخلوفي”، وكتبت يومها حول “عقدة التطبيقات المجتزأة في الاقتصاد السوري”، حيث أسيء إلى نموذج “اقتصاد السوق الاجتماعي” الذي كان وراء المعجزة الاقتصادية الألمانية، بقيادة الاقتصادي الألمعي “لودفيغ إيرهارد” الذي كان نتاج الحزب الديمقراطي المسيحي. أراد الفريق الاقتصادي السوري حينذاك “لبرلة” اقتصادية مشوهة، حيث إنّ “اقتصاد السوق الاجتماعي” حزمة من خمسة عناصر أساسية: (احترام حقوق الإنسان، سيادة القانون واليقين القانوني، المشاركة الشعبية في العملية السياسية، نظام اقتصادي موجه نحو “اقتصاد السوق الاجتماعي”، عمل الحكومة موجه نحو التنمية). وطالبت في ذلك الحين بتطبيق “اقتصاد السوق الاجتماعي”، بأبعاده الخمسة، فكانت تهمتي أنني أُدخل الاقتصاد بالسياسة! تساءلت وقتها: ما معنى علم الاقتصاد السياسي إذًا!
الليبرالية السياسية توأم الليبرالية الاقتصادية، ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، وبناء على التطبيقات المجتزأة والإصرار على عدم الشفافية وتحييد مصلحة الشعب من سياسات الحكومة، كانت المؤشرات الاقتصادية العالمية تدلّ على أنّ أهم خمس عقبات أمام الشركات التي تستثمر في سورية تشمل الفساد، حيث سورية الدولة 129 من أصل 182 عام 2011، والقوى العاملة غير المتعلمة بشكل كافٍ، والبيروقراطية الحكومية غير الفعالة، وعلى الرغم من أكثر من 1000 مرسوم تشريعي وقانون من أجل لبرلة الاقتصاد، فقد كان موضع سورية من حيث “مؤشر الحرية الاقتصادية” عام 2011 عند الرقم 144 من أصل 179، بمعنى أنّ سورية بعد كل هذه “الثورة التشريعية” كانت من أسوأ ثلاثين دولة، من حيث الحريات الاقتصادية. وكان هنالك مليون عاطل عن العمل في سورية عام 2005 (20%)، وكان 34% من السوريين تحت خط الفقر عام 2005، وكان 50 % من السوريين تحت خط الفقر عام 2011، وفي “مؤشرات ممارسة أنشطة الأعمال لعام 2011″، احتلت سورية المرتبة 144 من أصل 183 دولة.
على سبيل المثال، قرار الانضمام إلى الشراكة الأورومتوسطية ألغي بعد أن أخذ سنوات من العمل من قبل الفريق الاقتصادي؛ وذلك بسبب رفض الالتزام بشروط حقوق الإنسان، بل كانت هنالك مشاريع دراسات مستقبلية مع “البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة” عام 2007، بعنوان “سورية 2025″، استغرق العمل عليها سنتين، من قبل أكثر من ستين شخصية في كل المجالات، ومن ضمنها المجال الاقتصادي، وتم وضع تلك المشاريع على الرفوف، بالرغم من أنّ حجم الأبحاث المكتوبة مع الأوراق الخلفية تجاوز 13 ألف صفحة، تم اختصارها في مجلدين، ولم ترق لـ “المزاج المخلوفي” وللفريق الاقتصادي.
بتقديركم، ما حجم الخسارات التي أحاقت بمناحي الاقتصاد والصناعة في سورية، في السنوات العشر الماضية؟
شملت الخسائر كل القطاعات الاقتصادية، والتقديرات المحافِظة لخسائر ناتج الدخل القومي السوري 530 مليار دولار أو حوالي عشرة أضعاف ناتج الدخل القومي لعام 2010، وإذا كان أي اقتصاد ومشروع يحتاج للعامل البشري ورأس المال والأرض فعوامل الانتاج الثلاثة قد نالها العطب في سورية، بعد أن انهال 81916 برميلًا متفجرًا خلال عشر سنوات على رؤوس السوريين وأرضهم، فضلًا عن 231 نوعًا من الأسلحة الجديدة والحديثة التي جرّبها الجيش الروسي في العمليات العسكرية في سورية، كقاذفات من طراز”Su-24s” ، والطائرات الهجومية “Su-25″، والمقاتلات “”Su-35، إضافة إلى الطائرات “الاستراتيجية” من نوعي”Tu-95″ و”Tu-160″، والطائرات “الواعدة” من طراز “Su-57″، في الخطوط الأمامية، ومروحيات”Mi-28” و”ka52″، إضافة إلى إطلاق الصواريخ من أربع سفن حربية من طراز “Buyan” (بويان)، وغواصة “Rostov” (روستوف)، وصواريخ “Kalibr” (كاليبر)، وغير ذلك. وقد تسبب القصف المستمر للنظام وحلفائه والترهيب الأمني للنظام وسجنه وقتله مئات الآلاف في السجون من تهجير نصف سكان سورية وتدمير معظم الأرياف والمدن، في تضرر كل القطاعات الاقتصادية، ولعل أكثر القطاعات المتضررة الإسكان والزراعة والصناعة والتعدين، ويليها الكهرباء والنقل والتعليم والصحة والسياحة والصيرفة.
خسائر الاحتياطيات النقدية شملت كل الاحتياطي البالغ 17 مليار دولار، ولم يعد هنالك إدارة مركزية حقيقية للاقتصاد السوري، وخرجت محافظات عدة خارج الإدارة بشكل نهائي، وعلى الرغم من ذلك فإنّ الموازنة السورية عاجزة عن تلبية احتياجات عشرة ملايين سوري يقطنون في منطقة النفوذ الروسي، والدعم الحكومي في الموازنة تراجع من 20.2% إلى 4.9%، ووصلت موازنة 2021 مبلغ 8.5 تريليون ليرة سورية، ومع أنها أكبر موازنة في تاريخ سورية على الإطلاق، فإن قيمتها تعادل 2.5 مليار دولار فقط (3300 ليرة = دولار واحد شباط/ فبراير 2021)، وهي أخفض قيمة حقيقية لموازنة سورية منذ الخمسينيات.
وعلى الرغم من أنّ الرقة، ودير الزور، وإدلب، وريف حلب لا تدخل في إحصائيات النظام الرسمية، بلغ عدد العاطلين عن العمل 1.6 مليون عاطل عن العمل (4.9 مليون عامل حجم القوة العاملة 2011 الآن تقريبًا 3.7 مليون عامل)، وبلغ حجم البطالة التقديري ما بين 70 و80%. وبناء على معطيات الدمار خلال عشر سنوات، يقدر ناتج الدخل القومي 2020 بأقل من 7 مليار دولار. وتقدّر تحويلات العاملين خارج سورية تقريبًا 1.8 مليار دولار، ولكن المرسوم “القاتل” رقم 3 عام 2020 الذي يمنع تداول العملات الأجنبية، خسّر سورية أكثر من نصف المبلغ، وأُلقي القبض على الصرافين وأغلقت محلاتهم.
وبات أكثر من 90 % من السوريين تحت خط الفقر، وبينما كان “مؤشر التنمية البشرية” عام 2011 يصنّف سورية أنها الدولة 119 من أصل 187، فهي اليوم خارج التصنيف، يعني أسوأ من 187 دولة، وبينما كان “مؤشر الفساد والشفافية” في 2011 يصنّف سورية على أنها الدولة 137 من أصل 180 أي أنها واحدة من أسوأ 43 دولة في العالم، باتت عام 2020 الدولة 178من 180 أي أنها أسوأ ثالث دولة في العالم. واليوم، أصبحت سورية أفقر دول العالم! ومع الأسف، هذا هو واقع الاقتصاد السوري حاليًا.
إعادة الإعمار مرهونة بنوع الصفقة السياسية الأميركية-الروسية
ما السيناريوهات المحتملة لإعادة الإعمار؟ وإلى أيّ مدًى يمنع “قانون قيصر” الدول الحليفة للنظام من المساهمة في إعادة الإعمار؟
لا أعتقد أنّ هنالك مجالًا لإعادة إعمار حقيقية دون صفقة سياسية أو حلّ سياسي، ولذلك فإنّ السيناريوهات مرهونة بنوع الصفقة السياسية الأميركية-الروسية.
السيناريو الأول، هو تمكين مناطق النفوذ الثلاثة الروسية والأميركية والتركية، والإبقاء عليها واقعًا جغرافيًا، عندها سيكون “سيناريو ألمانيا الغربية” هو المطروح، حيث إنّ مناطق النفوذ تتحد لتشكل ألمانيا الغربية، والمرشح أن تكون منطقة النفوذ التركية بمساحة 20,332 كم مربع (10.98%) من الجغرافيا السورية، ومنطقة النفوذ الأميركي بمساحة 47,480 كم مربع (25.64%)، وربما تكون حلب ضمن الصفقة السياسية النهائية، وعلى اعتبار أن تركيا في النهاية هي جزء من حلف الناتو، فسيكون هنالك كثير من الطرق لتقريب وجهات النظر بين تركيا وأميركا، خاصة أنه لا يمكن الاستغناء عن الحدود التركية-السورية التي تبلغ 911 كم (566 ميلًا) وستحتاج منطقتي النفوذ التركي–الأميركي إلى مخرج للبحر، لذا ربما يتم استخدام منطقة لواء إسكندرون التركية كمنفذ بحري، ومن خلال جغرافية سورية الجديدة عبر توحيد منطقتي النفوذ التركية-الأميركية؛ تتشكل دولة جديدة تكون نموذجًا تنمويًا، خاصة أنه سيكون هناك “مؤتمر إعادة إعمار” حقيقي أميركي-تركي، يستطيع إقناع دخول شركات عربية وأوروبية لإعمار تلك الجغرافية السورية، وقد يأتي يوم تعود سورية موحدة، كما عادت ألمانيا موحدة بعد 42 عامًا عقب انهيار جدار برلين.
السيناريو الثاني، هو انسحاب كل الجيوش عدا الجيش الروسي، وتصبح سورية أقرب لتكون كـ “جمهورية الشيشان”، وتبقى روسيا هي المسيطرة على كل النواحي الاقتصادية، وتتغلغل في كل القطاعات، بعد أن بدأت الهيمنة على الاقتصاد السوري بشكل هائل، حيث تم التوقيع في أيلول/ سبتمبر 2020 على 40 مشروعًا جديدًا، في مجال إعادة إعمار قطاع الطاقة وإنجاز عدد من محطات الطاقة الكهرومائية واستخراج النفط من البحر، وسبق ذلك السيطرة على ميناء طرطوس لمدة 49 عامًا بعقدٍ يجدد تلقائيًا لمدة ربع قرن، وكذلك التوقيع في 26 نيسان/ أبريل 2016، من أجل تمويل بناء محطة تشرين، وإقامة 200 بيت بلاستيكي تزرع فيها خضار وفواكه، والعمل على إقامة شركة نقل بحري “سورية-روسية” بنسبة النصف لكل جانب، إضافة إلى وجود دراسة لإقامة بنك أو مؤسّسة مصرفية بين البلدين لتمويل الصادرات لكل طرف، وكذلك مصنع المحوّلات الكهربائية في مدينة عدرا الصناعية، وإقامة مشاريع صناعية من مثل ما وقع في شباط/ فبراير 2016 مع شركة “سوفوكريم” الروسية، لبناء أربع مطاحن للحبوب في محافظة حمص السورية، بكلفة 70 مليون يورو، وتعمل شركة “ستروي ترانس غاز” الروسية على إقامة مشاريع جديدة واسعة النطاق في سورية، مثل بناء محطة ضخ كبيرة عند نهر دجلة، ومعمل للأعلاف في محافظة حماة، وقد منح نظام الأسد روسيا أوّل اتفاق للتنقيب عن النفط والغاز في مياه سورية الإقليمية، ووقع الجانبان ما يعرف بـ “عقد عمريت” البحري، للتنقيب عن النفط وتنميته وإنتاجه في المياه الإقليمية السورية، من جنوب طرطوس على الشاطئ حتى بانياس، بعمق 70 كيلومترًا، وذلك لمدة 25 عامًا بتمويل روسي، بقيمة 100 مليون دولار. وقام نائب رئيس الوزراء الروسي، يوري بوريسوف، عام 2018 بتوقيع مذكرة تفاهم بين وزارتي الصناعة والتجارة في البلدين، والاتفاق على بناء المساكن واتفاقية أخرى في مجالات الأشغال العامة لتأهيل البنية التحتية، ومجمع الوقود والطاقة والبنية التحتية للنقل، والمؤسّسات الصناعية. هذا السيناريو قد لا يكون واعدًا، حيث إنه بعد عقدين من سيطرة الروس على الشيشان، لم يبلغ ناتج الدخل الإقليمي لجمهورية الشيشان أكثر من 141 مليار روبل روسي، أي ما يعادل 2.2 مليار دولار عام 2014، أو أقل من ربع بالمئة من الناتج الإجمالي لروسيا، وبلغت نسبة البطالة عام 2011 حوالي 32%، وانخفضت إلى 15% في عام 2015. فماذا ينتظر السوريون اقتصاديًا من تكرار التجربة الشيشانية في سورية؟ إن جمهورية الشيشان هي جزء من روسيا، فهي جزء من التجربة الروسية وربما تكون أسوأها، وتسببت في تشويه سمعتها في مجال حقوق الإنسان، ولكن روسيا اقتصاديًا تمثل واحدة من تجارب الفشل الاقتصادي، حيث هبط ناتج دخلها القومي من 2.2 تريليون دولار عام 2013 إلى 1.5 تريليون دولار عام 2017، ومعدلات التضخم وصلت 72% عام 1999، ثم نزلت إلى 37% عام 2000، وانتهت إلى 5.2% عام 2017، وهبطت أرقام الاستثمار المباشر في روسيا من 40 مليار دولار عام 2013 إلى أقل من 6 مليار دولار عام 2018، وهبط سعر الروبل من 23 روبل للدولار عام 2010 إلى 82 روبل عام 2016. فإذا كانت التجربة الاقتصادية الروسية متعثرة، وهي معادية للعالم، وتحت العقوبات الاقتصادية، وكذلك التجربة الاقتصادية الشيشانية بائسة متواضعة وغير مقنعة؛ فلن يعود هذا السيناريو على السوريين بكثير من الخير، إلا ببعض الأمان المؤقت وإعمار جزئي واقتصاد هزيل تسيطر عليه الحكومة الروسية مباشرة، وتزاحمه عليها إيران، ويبقى السوري مواطنًا درجة ثالثة في دولة شيشان السورية.
أعتقد أنّ أمام السوريين سيناريوهين لإعادة الإعمار، خيارين: إما سيناريو ألمانيا الغربية وإما سيناريو الشيشان، أما استمرار المقاومة ومقارعة الاحتلالات والتمسك بالقرارات الدولية، فهو ليس سيناريو إعادة إعمار بل سيناريو تحرر قد يطول، ومستبعد أن يستمر مع وجود ثلاث مناطق نفوذ واقعية على الجغرافيا السورية.
ونحن نرصد تغيّر المزاج العربي والعالمي لصالح تعويم رأس النظام السوري، نسأل عن المحاذير من إعادة تأهيل بشار الأسد وعودة العلاقات بين نظامه وبين حكومات الدول العربية، لجهة الاعتراف العربي بالعقود التي وقعتها حكومات الأسد المتعاقبة مع روسيا وإيران وغيرهما من الدول الحليفة له.
إنّ أي حل سياسي أو صفقة سياسية يُبقي الجيشين الروسي والإيراني، على طريقة آستانا، سيُلزم السوريين بالديون المثقلة على كاهلهم، التي قد تصل إلى أكثر من 30 مليار دولار لإيران وربما أكثر منها لروسيا، بل سيلزم السوريين بكل الاتفاقيات التي وقعها النظام السوري مع روسيا وإيران، من مثل الاتفاق مع الحكومة الإيرانية على بناء 200 ألف وحدة سكنية في محافظات سورية عدة، إضافةً إلى إنشاء 30 ألف وحدة سكنية، وقد يكون ذلك عاملًا مساعدًا في التغيير الديموغرافي في سورية. وكذلك الالتزام بخمس اتفاقيات ومذكّرات تفاهم وقعت عام 2017، كان أهمّها إعطاء إيران الامتياز لاستخراج الفوسفات من “منجم الشرقية”، في حين سيطر الروس على “مناجم خنيفيس”، وكذلك الاتفاق النفطي بين حكومة النظام وإيران، وهو عقد يمنح (طهران) حق استكشاف النفط في “البلوك رقم 12” في منطقة البوكمال بريف دير الزور، وتصل مساحته إلى 6702 كيلومتر مربع، وقد لا تسمح روسيا به، غير أنّ كل شيء مرهون بالصفقة النهائية بين الروس والأميركان. ولم يكتف النظام الإيراني بذلك، بل هنالك مشاريع في تربية الأبقار في طرطوس، واستصلاح أراضٍ زراعية وتطوير البذور، وفي 28 كانون الثاني/ يناير 2019 وقعت إيران مع النظام السوري على 11 اتفاقية ومذكرة تفاهم، بينها اتفاقية “تعاون اقتصادي استراتيجي طويل الأجل”، واتفاقيات في مجال إصلاح وتشييد شبكات الكهرباء في اللاذقية وحلب ودير الزور، ومعاهدات طويلة الأمد تشمل قطاع التعليم -وهذا أمر خطير جدًا- والمصارف والمالية والبناء وإعادة الإعمار، وإعفاء مواد البناء الإيرانية المخزنة بالمناطق الحرة في سورية من الضرائب لمدة عام، وإنشاء بنك مشترك إيراني-سوري سيكون مقرّه في دمشق.
إن تعويم النظام سيكون مسألة ثانوية أمام خسارة الثروات السورية لأجيال قادمة، فضلًا عن صعوبة عودة نصف سكان سورية مع بقاء نظام بشار الأسد وتركيبته الأمنية، وستكون سورية نموذجًا لفنزويلا التي ألغت ستة أصفار من عملتها، أو على طريقة موغابي في زيمبابوي حيث تجاوز التضخم 79.6 مليار في المائة في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر 2008! فضلًا عن تصدر قوائم دول الفساد وتنفير الاستثمارات الأجنبية وتأخير عملية إعمار سورية، بعدما دُمّرت بنيتها التحتية، يضاف إلى كل ذلك مزيد من تمزيق النسيج الاجتماعي السوري والذي يشكل جرحًا غائرًا يصعب تجاوزه.
ذكرتُ سابقًا سيناريو سيطرة روسيا على كل سورية، على طريقة جمهورية الشيشان، ولكن هذا لا يعني أن جمهورية الشيشان استقرّت، فعلى الرغم من تمكّن الجيش الروسي من السيطرة على الشيشان، في شباط/ فبراير 1995، فإنّ المقاومة الشيشانية ظلّت تقلق الأمن الشيشاني، والبرلمان والشرطة الشيشانية التي يسيطر عليها “رمضان قديروف” الموالي للحكومة الروسية، الذي تعرض لهجمات من قِبل المقاومة الشيشانية لم يكن آخرها في 4 كانون الأول / ديسمبر 2014، حيث نفذ مسلحون هجومًا على مبنًى في غروزني، أسفر عن مقتل 20 شخصًا على الأقل. وليس هذا فحسب، بل إنّ القلاقل طالت موسكو نفسها بعد حوالي عشر سنين على إخضاع الشيشان، حيث استولى المتمردون الشيشان في تشرين الأول/ أكتوبر 2002 على مسرح في موسكو، واحتجزوا أكثر من 700 شخص كرهائن، فاستخدمت القوات الروسية غازًا مجهول التركيبة لإخضاع المسلحين، ومات على إثر ذلك 41 شخصًا من المتمردين ومعهم 129 شخصًا من الرهائن، وفي حزيران/ يونيو 2003، قام الشيشانيون بهجوم انتحاري أزهق أرواح 16 شخصًا في حفل موسيقي في موسكو، وفي شباط/ فبراير 2004، قُتل أربعون شخصًا وجرح 100، عندما فجر مهاجم انتحاري قنبلة في قطار مترو موسكو، وكان المتهمون بارتكاب كل هذه العمليات هم المقاتلين الشيشان، وكذلك وصلت القلاقل إلى اغتيال رئيس الشيشان “أحمد قديروف”، في 9 أيار/مايو 2004. إنّ أي صفقة سياسية لا تعمل على إرساء عدالة حقيقية وصلح أهلي بين كل السوريين لن يكتب لها النجاح، بل ستؤذن بانفجار مجتمعي مستقبلي، وإنّ تكريس اتفاقيات إذعان اقتصادية ستفقر الدولة السورية القادمة لأجيال، وعندها نخسر سورية والشعب السوري، ولكن ربما نكسب “مقاومة العالم” و “ممانعة الإمبريالية”، وتغوص سورية مرة أخرى في مستنقع الشعارات التي ربما تمحو سورية كلها من الخارطة!
ما موقفكم من ملفّ العقوبات الأميركية والأوروبية على النظام السوري وداعميه، ولا سيما تجاه “قانون قيصر” الذي دخل حيّز التنفيذ في حزيران/ يونيو الماضي؟ وهل من بدائل لمعاقبة النظام الأسدي من قِبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، غير فرض عقوبات اقتصادية؟
العقوبات الاقتصادية الأميركية بدأت تنفذ تجاه سورية منذ عام 1979، عندما صُنفت (سوريا حافظ الأسد) دولة راعية للإرهاب، وفرضت بعدها عقوبات متتالية كرد على التدخل السافر في لبنان، مرورًا بـ “قانون محاسبة سورية”، وإصدار الرئيس الأميركي الأسبق “جورج بوش الابن” عام 2004 الأمر التنفيذي رقم 13338، وصولًا إلى العقوبات بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، وآخرها “قانون قيصر”، إضافة طبعًا إلى قوانين العقوبات الأوروبية.
إن العقوبات الاقتصادية هي شرط لازم، ولكنه غير كاف لإسقاط الأنظمة الاستبدادية، فلا يمكن أن تكون دول العالم ضد نظام حكم معين دون أن تعبّر عنه بفرض عقوبات اقتصادية، مثل العقوبات المفروضة على روسيا وإيران وكوبا وفنزويلا وغيرها من دول العالم، لكن الاكتفاء بالعقوبات الاقتصادية لا يزيح نظام لا يعبأ بشعبه، وهو مستعد لأن يُهجّر أكثر من النصف ممن هم في مناطق نفوذه، من أجل تحقيق “المجتمع المنسجم”! والعقوبات الاقتصادية لن تثني نظامًا ما عن التخلي عن طغيانه، ولن تمنع أي نظام يقوم بنفسه بتدمير البنية التحتية لبلده ويقتل أكثر من مليون شخص من أبناء شعبه، ويتهم شعبه -منذ الشهر الأول للثورة- بأنّ بينهم 63000 إرهابي! العقوبات لن تمنع نظامًا كهذا من الاستمرار في الحكم.
قوانين العقوبات الاقتصادية هي الحد الأدنى من التعبير عن السخط من الأنظمة الشمولية، ولا بد من الإشارة هنا إلى أنّ “قانون قيصر” مختلف عن باقي العقوبات الاقتصادية؛ فهو يستثني بشكل واضح الغذاء والدواء والاحتياجات الأخرى، وهو موجّه إلى روسيا أكثر منه إلى النظام، لأنه منع روسيا من قطف ثمار دخول الشركات الأجنبية والعربية لضخ استثماراتها في سبيل إعادة الإعمار، حيث إنه يعاقب أي دولة أو شركة تدخل مع النظام في أي مشروع عسكري أو هندسي أو غيره، ويُشرّع للعقوبات الثانوية التي تعاقب الشركات التي تتعامل مع الشركات المشمولة بعقوبات “قانون قيصر”.
باختصار، هو يقدّم تحايلًا على القرار 2254 للروس، فمفاد القانون أنّ على الروس إرجاع السوريين لبيوتهم من بلاد اللجوء والنزوح والسجون، والتوقف عن قصف مدارسهم ومشافيهم، والعمل على الصلح الأهلي قبل البدء بأي عملية إعادة إعمار. ولم يذكر “قانون قيصر” قرارات جنيف أو القرار 2254، ولكن النظام السوري وحلفاءه مصرّون -بكل صلف وفوقية- على إفناء السوريين وإبقاء النظام بتركيبته الأمنية، وفي الوقت نفسه تحاول روسيا -من دون جدوى- حثّ المجتمع الدولي على مساعدته في إعادة الإعمار، وهذا الأمر لن يستقيم.
إنّ الاكتفاء بالعقوبات الاقتصادية دون الدفع نحو حلّ سياسي أو صفقة سياسية حقيقية، تنهي عذابات السوريين، لن يفيد، وسيبقي الشعب السوري يشاهد -على أرضه- الحربَ الباردة جدًا، بين روسيا وأميركا من جهة، وبين إسرائيل وإيران من جهة أخرى، وسيرى كيف تشمت أميركا بغوص روسيا في الرمال المتحركة السورية، وكيف تدمّر إسرائيل القواعد الإيرانية في الأراضي السورية، وهو يعلم جيدًا أنّ الذي يدفع الثمن هو الجغرافيا السورية والشعب السوري الذي يزيد تشريده. وإن أحد سُبل الخلاص، من هذه المعضلة السياسية، تدويل المسألة السورية التي باتت تشبه “المسألة الشرقية”، وربما يكون هو “سيناريو ألمانيا الغربية” -كما ذكرت آنفًا- واتحاد منطقتي نفوذ أميركا وتركيا، بحيث تصبح تلك المنطقة كيانًا آمنًا برعاية أميركية-تركية من دون التدخل بـ “الحكومة الوطنية”، على طريقة ألمانيا الغربية التي لا تزال فيها حتى الآن قواعد عسكرية أميركية.
وهنا لا بدّ من التأكيد أنّ الإشراف التركي يضمن عدم تشكيل كيان انفصالي في الشمال السوري، والإشراف الأميركي يضمن تشكيل دولة مدنية ديمقراطية متصالحة مع العالم، وبذلك يكون ذلك الحيّز من الجغرافيا السورية خاليًا من الالتزامات والاتفاقيات والديون التي وضعها نظام الأسد على كاهل السوريين لأجيال، وينتهي نصف سورية -خاصة إذا ضُمت حلب للصفقة السياسية- من كل قوانين العقوبات الأميركية والأوروبية، وتبدأ عملية إعمار منطقة كبيرة من سورية بشكل حقيقي، بمساعدة كل دول العالم، وتصبح نموذجًا حقيقيًا لدولة الرشادة والعدل والقانون والحرية، وتتسع المنطقة لأكثر من 15 مليون سوري، لو أُحسنت إدارتها. ولا يمنع هذا من أن يظل الشعب السوري يطالب باستعادة وحدة أراضيه بشكل حقيقي، ولو بعد أربعين عامًا، كما عادت ألمانيا موحدة بعد تغيّر التوازنات الدولية وسقوط الاتحاد السوفيتي، ويكون على الأقل هنالك جزء من سورية -مثل ألمانيا الغربية وكوريا الجنوبية- بمكانة راقية مثل الدول الصاعدة تستطيع انتشال نصفها الآخر من أوحال الفقر والفساد، والخدمات الصحية السيئة، والتعليم البائس، والبطالة والظلم.
إنّ المطالبة اليوم، ضمن سياق التدويل الهائل للمسألة السورية، بـ “وحدة” الأراضي السورية -على طريقة آستانا- تعني جغرافيًا أنّ سورية موحدة تحت سيطرة القوة العسكرية النافذة أو الوحدة تحت القوى الأجنبية، وما دمنا لا نتصوّر خروج الروس من سورية لعقود قادمة (العقود الموقعة مع روسيا لمدة خمسين عامًا) يبقى عندها المعنى السياسي الوحيد لجملة “وحدة الأراضي السورية” هو “وحدة الأراضي السورية تحت العلم الروسي”، ولذا فإن على نخبة الشعب السوري أن تبحث عن مشروع إنقاذ حقيقي لكل سورية، أو نصف سورية، قبل فوات الأوان، وقديمًا قالوا: “ما لا يُدرَك كلّه لا يُترك جُلّه”!
ماذا عن (مجموعة عمل اقتصاد سورية)، ورؤيتها لما تحتاج إليه سورية اليوم، للخروج من نكبتها الاقتصادية والسياسية على المدى المنظور، وفي المدى الأبعد.
ما بين عامي 2013 و2015، كنّا قد طرحنا في (مجموعة عمل اقتصاد سورية) الخارطة الاقتصادية لسورية الجديدة، وكتبنا مع مجموعة باحثين وتكنوقراط سوريين أربعة عشر تقريرًا اقتصاديًا معمّقًا، في قطاعات اقتصادية عديدة في النفط والغاز والمياه والكهرباء والقطاع العام والقطاع الصناعي الخاص والإنشاء والإسكان والإحصاء والتشريعات والمالية والزراعة وغيرها. لتجيب عن سؤال: ما الذي علينا أن نقوم به في الأشهر الستة الأولى من سقوط النظام، كحل إسعافي، وخطة في السنة الأولى وخطة لخمسة سنوات؟
ثم حرّرنا سبعة عشر تقريرًا، بعنوان “المشهد الاقتصادي السوري”، ودرسنا الحياة المعاشية والموارد الاقتصادية المحلية لمدن صغيرة داخل سورية، ثم حرّرنا رؤيتنا بخمسة تقارير اقتصادية معمقة في القطاع الزراعي، كي نضع رؤية أوضح لمستقبل سورية الزراعي، من مثل سؤال: هل القطن حقًا محصول استراتيجي؟ وماذا عن الغابات والبيئة في سورية؟ وكذلك مستقبل البذور المحسنة والزراعات البديلة، وغيرها من المواضيع التي تضع سورية على السكة الاقتصادية الحقيقية.
طبعًا ما يصلح عام 2015 لا يصلح بالضرورة لعام 2021، ولذلك هذه الدراسات تحتاج إلى تحديث بشكل دائم وإلى دراسات مستمرة وحديثة في لحظة تاريخية معينة، وأهمّها تاريخ عقد الصفقة الروسية الأميركية لحل الكارثة السورية.
حديثًا، قمت بإعداد دراسة حول الدستور الاقتصادي السوري والإطار المرجعي للحقوق الاقتصادية في الدستور السوري المستقبلي، خاصة الإعلان العالمي الخاص باستئصال الجوع وسوء التغذية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإعلان الحق في التنمية، وقد اقترحت حوالي سبعين مادة دستورية للدستور السوري القادم، تؤسّس لطبيعة ملامح النموذج الاقتصادي السوري في سورية المستقبل، من أجل استثمار الطاقة الكامنة الاقتصادية وتمكين الطبقة الوسطى، ورفع المستوى المعاشي للسوريين ضمن إطار من الحكم الرشيد والشفافية والمسؤولية.
غسان ناصر _ مركز حرمون للدراسات المعاصرة