أرحام تحت مشرط الحرب وطمع الأطباء

سجلت سوريا في العقد الأخير، معدلات غير مسبوقة في عدد الولادات القيصرية، مدفوعة بالأوضاع الأمنية المضطربة منذ عام 2011، وما رافقها من تدهور في الاقتصاد وقطاع الخدمات الطبية والرعاية.

وبينما تحدثت مؤسسات البحث والإحصاء، عام 2019، عن نسبة استثنائية عالميًا سجلتها تركيا، بمعدل 54.4 بالمئة (544 طفل من كل 1000)، كانت سوريا حينها، وهي الغارقة في الحرب منذ ثماني سنوات، تسجل معدّلًا يفوق ذلك بكثير، فمن بين كل 1000 طفل سوري، هناك 630 ولدوا عبر الجراحة القيصرية، بمعدل 63 بالمئة.

بالمقابل تشير دراسات وأرقام منظمة الصحة العالمية الأخيرة إلى أن طفلًا من بين كل خمسة أطفال في العالم يولدون عبر الجراحة القيصرية، محذرة من ضررها، خصوصًا مع احتمالات ارتفاع النسبة إلى نحو 29 بالمئة عام 2030، وهي نسب أقل بكثير من تلك المسجلة في سوريا.  

هنا تحقيق أنجزه مشروع سيريا أنديكيتور المستقل للصحافة الاستقصائية (Syria Indicator)، يكشف عبر مقارنات إحصائية موثوقة المصادر، شملت المحافظات الخاضعة لسلطة الحكومة السورية، خلال سنوات ما بعد 2011، أن الاضطراب الأمني وضعف الرقابة، وطمع أفراد وجهات في القطاع الطبي، كانت عوامل ملائمة لتتحول النساء الحوامل، بصورة ممنهجة، إلى مصدر ربح عبر جراحات قيصرية دون استطبابات.  

وإضافة إلى الاستغلال والفساد في القطاع الطبي، أسهم تراجع دور مؤسسات الدولة في مهمة التوعية والرعاية، في تحول الحوامل وأطفالهن إلى ضحايا يدفعون الثمن صحيًا وماديًّا ونفسيًا، في ظاهرة ستترك آثارها على مستقبلهم من جهة، ومستقبل أجيال قادمة في البلاد من جهة ثانية. 

أسهم تراجع دور مؤسسات الدولة في مهمة التوعية والرعاية، في تحول الحوامل وأطفالهن إلى ضحايا يدفعون الثمن صحيًا وماديًّا ونفسيًا

إلى الأرقام.. أربعة أضعاف المعدل المثالي

حصل تحقيق سيريا أنديكيتور على بيانات بأعداد المواليد، وطرق الولادات، في المستشفيات العامة والخاصة من هيئات رسمية في الدولة السورية، للفترة الممتدة بين عامي 2010 و2021، إضافة إلى بيانات النصف الأول من عام 2022.

يشير تحليل بيانات الولادات القيصرية في سوريا إلى ارتفاع متواتر، إذ قفزت نسبة الولادات القيصرية من 29% في عام 2010 إلى 57% في عام 2020.

وبلغت الولادات القيصرية في عام 2019، نسبة 63% من مجموع الولادات، وهي أعلى نسبة مسجلة طوال مدة التحليل، أي قرابة أربعة أضعاف المعدل المثالي العالمي الذي حددته منظمة الصحة العالمية، ويتراوح في نطاق بين 10-15% من مجموع الولادات. 

البيانات الكلية التي حصل عليها التحقيق، تشمل جميع المستشفيات التابعة لوزارة الصحة، لكنها لا تشمل المستشفيات التابعة لوزارتي التعليم والدفاع، أو العيادات الخاصة والولادات المنزلية. 

أرقام المستشفيات الخاصّة تحلّق بلا ضوابط 

سجلت الولادات القيصرية، في المستشفيات الخاصة، حسب البيانات المتوفرة، ما نسبته 50% من مجمل الولادات في عام 2010، وسجلت ارتفاعات متتالية منذ 2011، وصلت ذروتها إلى 76% عام 2019.

ومن أصل 47 ألفًا و721 حالة ولادة في 2019، جرى تسجيل 36 ألفًا و52 ولادة عبر الجراحة القيصرية، مقابل 11 ألفًا و669 ولادة طبيعية. 

وفي العام الذي يليه، 2020، سجلت الولادات القيصرية نسبة 74% من العدد الإجمالي للولادات.

ولا تشمل أرقام عامي 2019 و2020 محافظاتي الرقة وإدلب الخارجتين عن سيطرة حكومة دمشق، وكذلك لم تتوفر بيانات المستشفيات الخاصة في دير الزور والقنيطرة.

عام 2019 سجلت المستشفيات الخاصة بدرعا وطرطوس واللاذقية ودمشق أعلى نسب العمليات القيصرية، وبلغت على التوالي 96% في درعا، 94% طرطوس، 92% اللاذقية، و80% دمشق، وبلغ مجمل الولادات القيصرية في المحافظات الأربع ثمانية آلاف و522 ولادة، لكن ريف دمشق وحدها سجلت، عشرة آلاف و680 ولادة قيصرية، بمعدل 72% من مجمل الولادات، ورغم انخفاض الولادات القيصرية في هذه المحافظة إلى 67% عام 2020، إلا أن عددها زاد إلى 11 ألفًا و321 ولادة. 

وردًا على سؤال، حول دورها تجاه ارتفاع نسبة القيصرية، قالت وزارة الصحة السورية بأنها أطلقت خطة لرعاية كل مولود حي، وطُبقت في بعض المستشفيات الحكومية التابعة لها العام الماضي، بشكل خفف من نسب القيصرية فيها، وأضافت الوزارة “أنها لا تمون (تسيطر) على المستشفيات الخاصة”. 

دمشق.. أرقام قياسية

تختلف نسبة الولادات القيصرية من نسبة الولادات الكلية حسب المحافظة، علماً أن سورية تنقسم إلى 14 محافظة إدارية، إذ ارتفعت النسبة في مستشفيات دمشق الخاصة، على سبيل المثال، من 56% في عام 2010 إلى 73% في عام 2020، ووصلت ذروتها في 2018 إلى 85%، أي أن 85 طفلًا من كل 100 طفل، ولدوا قيصرياً. 

وأكد مصدر مسؤول في وزارة الصحة السورية، طلب عدم الكشف عن اسمه لأسباب خاصّة، أن بعض المستشفيات الخاصّة في دمشق، سجلت “القيصرية” فيها نسبة 100%، أي أنها لم تجر أي ولادة طبيعية في العام 2022. 

المستشفيات العامة على نفس الطريق

 سجلت المستشفيات العامة التابعة لوزارة الصحة، هي الأخرى، ارتفاعًا في نسبة الولادات القيصرية من 19% عام 2010 إلى 47% عام 2021، وسجلت في النصف الأول من عام 2022 (بحسب أحدث إحصائية متوفرة) نسبة 49% من المجموع الكلي للولادات بنوعيها.

وفي عام 2019، سجلت الولادات القيصرية أعلى ارتفاع لها، في المستشفيات العامة، ومن أصل 81 ألفًا و514 حالة ولادة، جرى تسجيل 45 ألفًا و348 حالة ولادة قيصرية، بنسبة 56%، بزيادة تعادل ثلاثة أضعاف النسبة المسجلة عام 2010.   

ويرجح طبيب في مستشفى عام، طلب عدم الكشف عن هويته، أن المستشفيات الحكومية (العامّة) تسعى لضبط الولادات القيصرية من دون استطبابات، إلا في حالات “نادرة”، كأن تدفع الحامل مبلغاً مالياً لطبيب خارج المستشفى لإجراء القيصرية لاحقاً، وهو ما تحدثت عنه وزارة الصحة في إطار ردّها على استفسارات التحقيق.

ورغم تبرير الوزارة والطبيب لنسبة انخفاض القيصريات في المستشفيات العامة مقابل الخاصة، إلا أن النسبة المسجلة على مدى 11 عامًا تظهر أن عمليات الضبط لم تسهم في إبقاء تلك العمليات في معدلاتها الطبيعية، بل فاقت حتى المعدلات العالمية، إذ يشير بحث نشرته منظمة الصحة العالمية  (WHO) في حزيران 2021، إلى أن الولادات القيصرية تمثل 21٪ من جميع الولادات في العالم. 

“قيصريات” على خط النار 

ما إن شعرت هبة (35عاماً) بأعراض مخاض ولادة طفلها الأول في مدينة النبك بريف دمشق، حتى هرعت على الفور مع زوجها وأمها صوب أقرب مستشفى حكومي في المدينة، وبعد انتظار لنحو 12 ساعة، أُجبرت على الولادة القيصرية، دون أي استطباب يستدعي ذلك وقتها، إلا العامل الأمني، بحسب كلامها. 

عام 2013، كان الصراع المسلح بين القوات الحكومية وفصائل المعارضة على أوجه في منطقة القلمون بريف دمشق، وتقول هبة، إن “الوصول إلى المشفى من دون أن نصاب برصاص القنص جلّ ما شغل تفكيرنا حينها”. 

انتظرت السيدة الثلاثينية على سرير المستشفى الحكومي، من الساعة الواحدة ليلاً حتى 12 ظهراً، وأكدت الممرضة والطبيبة المناوبتان أن حالة الرحم وسائل “ماء الرأس” جيدتان، ولا داعي للولادة قيصرياً.

“لم يكن المستشفى مجهزاً بما يكفي ذلك الوقت، حدثت ولادات متعددة بالقرب مني، ولا يفصلني عن المريضات سوى ستارة فقط، فتأثرت نفسيتي سلباً وطلبت الخروج”، تضيف هبة.

بعض العيادات تستقبل ولادات قيصرية دون تجهيزات طبية ملائمة – سيريا انديكيتور

غيرت هبة الوجهة نحو طبيب نسائية في المنطقة، حوّل قسماً من عيادته الخاصة إلى غرفة عمليات مصغرة، ليخبرها بأنها تحتاج جراحة قيصرية عاجلة، بزعم أن فتحة الرحم قابضة، وماء الرحم بدأ بالنزول عن الجنين.

تقول، “أعتقد، شخصياً، أن الطبيب رغب فقط بإنهاء الولادة على عجل”، مضيفة، “لم تكن العيادة مجهزة، لا من حيث التعقيم ولا أكياس الدم، حتى أن كمية التخدير لم تكن كافية وصحوت أثناء الولادة”.

خلال أقل من ساعة أنجز الطبيب العملية، وأخرج هبة، “خوفاً من تعرض المكان للقصف”، كما تروي، لكن جرح القيصرية التهب بعد عدة أشهر من الولادة، وكان مفتوحاً بشكل جزئي نتيجة رداءة نوع خيوط الجراحة، وقلة العقامة، وفق طبيب آخر قامت بمراجعته، وعندها اضطرت للجوء إلى طبيب جراحة عامة، كما تقول. 

كثيرات هن النساء اللواتي تعرضن لظروف مشابهة لظروف هبة، ويرجع الطبيب نزار، المتخصص بالتوليد، زيادة نسب الولادات القيصرية بين أعوام 2012 و2015 إلى العامل الأمني.

ويشير صندوق الأمم المتحدة للسكان، في إحاطة عام 2013، إلى أن “الأزمة” وظروف “النزاع” في سوريا، “تجبر النساء الحوامل على اختيار عمليات الولادة القيصرية”.  

يقول الطبيب نزار (اسم مستعار)، والذي عايش المرحلة خلال عمله في المستشفيات الحكومية والخاصة داخل سوريا، “كان الخروج من المنزل يشكل خطراً على الحامل والطبيب معاً، لذلك كانت القيصرية مفضلة لدى الطرفين”.

أحلام، وهي الأخرى طبيبة أخصائية في أمراض النسائية والتوليد بدمشق، تتفق مع زميلها حول دور العامل الأمني أثناء الحرب، حيث تقول، “تعرضت شخصياً لخطر أثناء خروجي في إحدى المرات”، مفسرة الاضطرار إلى خيار الجراحة القيصرية، وارتفاع معدلاته في تلك الفترة.  

الإحصاءات التي حصل عليها التحقيق، تشير إلى أن معدل الولادات القيصرية قفز من 29% إلى 50 %، خلال خمس سنوات بين عامي 2011 و2015. 

وسجل العام 2015 ولادة 101957 طفل سوري، نحو نصفهم، (50973 طفلًا) ولدوا عبر عمليات قيصرية. 

الخوف والحفاظ على ضيق المهبل

لجأت رانية (30 عاماً) إلى الولادة القيصرية بناء على رغبتها الشخصية، جراء خوفها من مخاض الولادة الطبيعية كما تصورت، والسبب الآخر هو أن طبيبها لا يجري ولادات طبيعية، حسب ما فهمت من المرضى والسكرتاريا.  

تقول رانية، “كان بإمكاني أن أخضع لولادة طبيعية، لكنني اتفقت مع الطبيب على إجراء القيصرية مسبقاً”.

بيان (28 عاماً) هي الأخرى أجرت ولادة قيصرية في مستشفى خاص بدمشق دون استطبابات، خوفاً من آلام المخاض، إلا أن طبيبتها لم تشرح لها سلبيات وإيجابيات كل من الولادتين الطبيعية والقيصرية، حسب قولها. 

تذكر الطبيبة “منى”، المتخصصة بالأمراض النسائية والتوليد، أن رغبة بعض الأزواج في الحفاظ على جمالية الأعضاء التناسلية للمرأة، يعد أحد أسباب طلب القيصرية، تجنباً لاحتمالية توسع المهبل في الولادات الطبيعية المتعددة. 

أسباب أخرى 

يرجع الطبيب نزار ارتفاع الإقبال على العمليات القيصرية إلى الثقافة الاجتماعية السائدة، ورغبة بعض النساء بالولادة في وقت مبكر من الحمل، قائلًا، “يجب أن يحترم الطبيب في النهاية رغبة المريضات، ولا يمكن إجبارهن على الولادة الطبيعية على الرغم من القسم الطبي”. 

وتذكر الطبيبة أحلام، أن بعض أسر الحوامل يستعجلون الطبيب أحياناً لإجراء القيصرية، وتفسر الزيادة، أيضاً، لوجود سوابق قيصرية لدى عدد كبير من الأمهات، خاصة مع وجود استطبابات في الولادة الثانية.

الأرحام مصدر ربح للأطباء

تحدثت نساء لمعدي التحقيق عن وجود أطباء لا يقبلون حالات الولادة الطبيعية، لأنها تستهلك وقتهم، وعوائدها المالية غير مجدية، كما أنهم يتقاضون مبالغ إضافية فوق كلفة العملية التي يغطيها التأمين الصحي لكثير من الحوامل.

هناك أطباء لا يقبلون حالات الولادة الطبيعية، لأنها تستهلك وقتهم، وعوائدها المالية غير مجدية

أنجبت رانية، المدرسة في جامعة دمشق والمتعاقدة مع شركة تأمين خاصة، طفلها الأول قيصرياً في مستشفى خاص بدمشق، عام 2019، وبلغت أجور الولادة 400 ألف ليرة سورية، لكنها دفعت 40 ألف ليرة للمستشفى فقط بموجب عقد التأمين، أي 10% من التكلفة. 

ويحصل بعض الأطباء على الفروق السعرية من المرضى المؤمن عليهم، بدل أن تدفعها جهة التأمين كما حصل مع رانية، إذ تقول “حصل الطبيب أيضاً على أجرته قبل الولادة بأسبوع، بمعزل عن أجرة المشفى، بينما يفترض أن يحصل عليها من شركة التأمين لاحقاً”. 

واعترف مصدر مسؤول في هيئة الإشراف على التأمين في سوريا، طلب عدم ذكر اسمه لأسباب خاصة، بوصول شكاوى منذ بداية 2022، مضمونها أن مستشفيات تقاضت فروقات أسعار من حاملي بطاقة التأمين.

يرى الطبيب نزار، أن الأمر لا يتعلق بعوائد مربحة لعمليات الولادة القيصرية، بقدر ما هي مشكلة متعلقة بالتأمين الصحي، لأن أسعار التأمين مجحفة بحق الأطباء المتعاقدين مع جهات تأمينية، كما أن الأطباء لا يفضلون أن ينشغلوا عن العمل في عياداتهم لوقت طويل، وأن ينتظروا الحامل حتى تلد بشكل طبيعي، ليحصلوا بعدها على أجر منخفض من جهة التأمين الذي يحدد سعراً أعلى للولادة القيصرية من الطبيعية.

المسؤول في هيئة الإشراف على التأمين، أكد أن أجور الأطباء الجراحين في العمليات القيصرية من جهات التأمين كانت تصل في حدها الأقصى إلى 75 ألف ليرة سورية، أما اليوم فهي 302 ألف ليرة عن كل ولادة في المستشفيات المختلفة.

يفضل الكثير من الأطباء في سوريا إجراء القيصريات لأن العائد منها أعلى – خاص سيريا انديكيتور

وتشير الطبيبة أحلام إلى فروق شاسعة بين أجور الولادة القيصرية والطبيعية التي يحصل عليها الطبيب في سوريا، إذ إن أجور القيصرية أعلى من الطبيعية، وهي أحد عوامل زيادة نسبة القيصريات، وحتى عندما تدفع جهة التأمين مبلغاً مناسباً لجهد الطبيبة والطبيب، فإن المستشفى تستحوذ على قسم كبير من أجورهم.

ويرد المصدر المسؤول في هيئة الإشراف على التأمين، بأن الهيئة أصدرت تعميماً في 4 من آب 2022، يقضي بتحويل أجور الأطباء إليهم مباشرة، وليس عن طريق المشفى، حفاظاً على حقوقهم، حيث اعتادت جهات التأمين على تحويل الأجور إلى المشفى أولاً، ثم تحولها الأخيرة إلى الأطباء لاحقاً، وكانت المشفى تتأخر في إيصال الأجور إلى أطبائها وطبيباتها أو تصل الأجور منقوصة.

تضرب أحلام هنا مثالاً، بأن أجور الطبيب المتعاقد مع التأمين عندما تكون 100 ألف ليرة سورية عن كل ولادة قيصرية، فإن أجوره عن الولادة الطبيعية هي 15 ألف ليرة فقط. 

تقول، “منذ أكثر من سنة أنهيت مع عدد كبير من زميلاتي وزملائي التعاقد مع منظومة التأمين الصحي، نتيجة التضخم والفروق بين أسعار التأمين والولادات في الممارسة الخاصة، ناهيك عن تأخر حصول الأطباء على أجور العمليات من جهات التأمين لمدة 3 أشهر فأكثر”. 

ويذكر المصدر المسؤول في هيئة الإشراف على التأمين، أن انسحاب الأطباء من شبكة التأمين الصحي كان سائداً قبل الشهر الأول من عام 2022، جراء “نقمة الأطباء” من ضعف الأجور والتأخر في سداد المستحقات. 

ويؤكد المصدر، أن هيئة الإشراف على التأمين أنذرت جهات التأمين (الشركات)، بأنه بدءاً من مطالبات (فواتير) شهر آب 2022، يجب الالتزام بمهلة سداد للأطباء الجراحين لا تزيد عن 45 يوماً، تحت طائلة إيقاف عملها أو إلغاء ترخيصها.

 استئصال الرحم في ازدياد

تشير البيانات من عام 1990 إلى عام 2017، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، إلى ارتفاع مخاطر الوفيات بين الأمهات بعد الولادة القيصرية، وأن ربع جميع النساء اللاتي توفين أثناء الولادة في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل قد خضعن لعملية قيصرية. 

كما تشير الإحصاءات إلى أن نسبة وفيات الأطفال في تلك البلدان، أعلى 100 مرة من البلدان ذات الدخل المرتفع، حيث يموت ما يصل إلى ثلث جميع الأطفال، وفقًا لبيانات من 12 مليون حالة حمل.  

وتحذر هيئات ومرجعيات طبية متخصصة من عواقب العمليات القيصرية على الطفل والأم، ومنها الحاجة إلى نقل الدم، وخطر حدوث مضاعفات من جراء التخدير، وإصابة الأعضاء والعدوى، ومرض الانصمامية الخثارية (جلطات الدَّم)، وضيق التنفس لدى حديثي الولادة، كذلك ارتبطت القيصرية بحدوث مضاعفات من قبيل تمزق الرحم والحمل خارجه وحتى استئصاله، والتصاق المشيمة، والعقم، أو الالتصاقات داخل البطن في الحمل التالي.

وحول الوضع في سوريا، تؤكد  الطبيبة “م.ت”، أنها واجهت حالات لأمهات تضررن صحياً بعد الولادة القيصرية، قائلة، “للأسف حالات المشيمة ذات الارتكاز المعيب والاندخال (التصاق المشيمة بالعضل الرحمي) في ازدياد، واحتمال النزف واستئصال الرحم معها مرتفعة جداً”.

ويقول طبيب في مشفى حكومي، إنه مع ازدياد إصابات المشيمة المندخلة والنازفة، “يضطر الأطباء والطبيبات إلى استئصال الرحم، كما تراجع المشافي يومياً حالات لديهن مشيمة مندخلة على ندبة ولادة قيصرية سابقة، وأخريات لديهن حمل هاجر على الندبة (الحمل خارج غشاء الرحم)”.

بدورها تؤكد الطبيبة أحلام، “زيادة نسبة المريضات اللواتي يعانين من المشيمة المندخلة، جراء زيادة الولادات القيصرية عموماً”.

وتضيف، “تراجع مشفى الزهراوي الحكومي، كل أسبوع، حالة أو حالتا استئصال رحم ولادي لأمهات أجرين قيصرية سابقاً”.

رعاية ما بعد الجراحة بين صفر و1.5 مليون ليرة 

تقرير “منظمة الصحة العالمية” عام 2018، يحذر من أن المعدلات المرتفعة للعمليات القيصرية ترتبط بتكاليف باهظة للحصول على الرعاية الصحية.   

وفي سوريا تختلف تكاليف الرعاية الطبية للولادة القيصرية حسب تصنيف المستشفى ومكانها، سواء كانت في ريف دمشق أو في مركز المدينة، وحسب نوعها، سواء كانت خاصة أو عامة، لكنها تترواح بين 600 ألف ومليون ونصف المليون ليرة سورية في المستشفيات الخاصة، بينما تقل عن 100 ألف ليرة في الأقسام الخاصة للمستشفيات العامة، وهي شبه مجانية في الأقسام العامة في المستشفيات العامة أيضاً، بحسب إفادات مرضى وأطباء. 

ومع تدهور الوضع المعيشي، تصبح رعاية ما بعد القيصرية عبئًا على الأمهات وحتى الأطفال، ما يعني أن العجز عن تأمين الرعاية يفتح الباب واسعًا أمام احتمالات تفاقم الإصابات مع عجز كثير من الأمهات عن تأمين مصاريف ما بعد الولادة القيصرية، حسب ما يشير أكثر من مصدر طبي أو نساء ممن تمت مقابلتهم لغرض التحقيق.

مع تدهور الوضع المعيشي، تصبح رعاية ما بعد القيصرية عبئًا على الأمهات وحتى الأطفال

عمليات بدون استطبابات 

بعد مرور سنوات على معاناتها إثر القيصرية التي أجراها طبيب داخل عيادته الخاصة، عادت هبة لتقع ضحية مشارط الجراحين، مؤكدة أن حملها الثاني انتهى بها داخل مستشفى خاص في دمشق، وقالت، “ولدت ابني الثاني بعد عدة سنوات قيصرياً، لمجرد أن ولادتي الأولى قيصرية، ودون استطبابات”.

ارتفاع مستويات القيصرية طبقاً للبيانات، ترافق بشكل متكرر مع عمليات دون استطبابات، إذ يوثق التحقيق أربع حالات من أصل سبع، أنجبن بجراحة قيصرية من دون استطبابات.

عمليات قيصرية بدون داع وفي ظروف خطيرة على الأم والمولود – خاص سيريا انديكيتور

من بين تلك الحالات، علياء التي قررت منذ بداية الحمل أن تلد طبيعياً، لكن يبدو أن للطبيبة رغبة أخرى. 

تروي علياء تفاصيل ما حدث يوم الولادة في مستشفى خاص بدمشق، قائلة، “أخبرت الممرضة أنني سأدخل إلى غرفة خاصة بطبيبتي المشرفة، فأجابت مباشرة بعبارة (عمليات إذاً)، فقلت لها أنا سأخضع لولادة طبيعية وليست قيصرية، وبعد الانتهاء من عمليتي اكتشفت أن الطبيبة ذهبت لإجراء قيصرية أخرى بشكل متتال”. 

لم تتحدث الطبيبة إلى علياء عن احتمال إجراء القيصرية أثناء فترة الحمل، بل كانت تخبرها بأنها ستنتظرها في فترة المخاض حتى تنجب طبيعياً.

وتضيف علياء، “أصابني خراج فوق موضع جرح القيصرية، راجعت طبيبتي التي نظفته بعد أن أخرجت القيح من داخله”.

أطباء يختلقون الاستطبابات

تقول الطبيبة “م.ت”، والتي تعمل في مستشفيات خاصة وعامة بدمشق، إن القيصرية بالنسبة للطبيب محددة الوقت والتاريخ، ولا تستدعي إسعافاً، لذلك فإن الطبيب يختلق استطباب دون ضرورات حقيقية، كما أن الربح المادي في القيصرية أفضل بكثير من الطبيعية إلى جانب طولها وصعوبتها. 

لا تنكر الطبيبة أن مستشفيات خاصة تجري عمليات قيصرية، على الرغم من عدم وجود استطبابات، إذ تقول، “نتبع كأطباء رغبة الأم، لكن يفترض أن تشرح لها مميزات وسلبيات نوعي الولادة، وتترك لها حرية الاختيار”.    

الربح المادي في القيصرية أفضل بكثير من الطبيعية إلى جانب طولها وصعوبتها

بدوره يقول الطبيب نزار، “لا تجرى القيصرية في المشافي العامة، حيث عملت سابقاً، إلا بناء على استطباب واضح مع وجود استثناءات، كما أن الولادة الطبيعية في المشافي الحكومية أسهل، لوجود طواقم طبية مناوبة على مدار الساعة تسهر مع الحامل أثناء الولادة”. 

يضيف نزار بالقول، “تركت العمل في مشفى الزهراوي العام (الحكومي) منذ عام 2014، إلا أنني أذكر أن مدير المشفى كان يعترض عندما تصل نسب القيصرية في التقرير الأسبوعي إلى 20%، بينما نسبها في المشافي الخاصة مرتفعة جداً”.

نقابة الأطباء في سوريا قالت، إن هناك شروطًا واستطبابات للجراحة القيصرية، لكن إذا رغبت المريضة والطبيب بإجراء القيصرية، فإن الأخير يكيف الشروط بما يتوافق مع ذلك، بالتوازي مع ميل بعض النساء في المجتمع لإجراء القيصرية على الرغم من كونه خطأ. 

وذكرت النقابة بأنها أجرت سلسلة محاضرات توعوية لتشجيع الولادة الطبيعية، لكن رغبة المريضة هي التي توضع بالاعتبار في النهاية.   

استطبابات “القيصرية”.. تصنيف روبسون 

عام 2015 ، اقترحت منظمة الصحة العالمية استخدام تصنيف روبسون (المعروف أيضًا باسم تصنيف المجموعات العشر)، كمعيار عالمي لتقييم ورصد ومقارنة معدلات الولادة القيصرية داخل مرافق الرعاية الصحية وفيما بينها. 
يصنف النظام جميع النساء في واحدة من 10 فئات متنافية، وكمجموعة، شاملة.
تعتمد الفئات على 5 خصائص توليدية أساسية يتم جمعها بشكل روتيني في جميع الأمهات وهي: 
– التكافؤ
– عدد الأجنة
– العمليات القيصرية السابقة
– بداية المخاض
– عمر الحمل وظهور الجنين
تتوقع منظمة الصحة العالمية أن يساعد هذا التصنيف مرافق الرعاية الصحية على تحليل معدلات الولادة القيصرية الإجمالية، وتحسين استخدامها، وتقييم جودة الرعاية والبيانات التي يتم جمعها، ورفع وعي الموظفين حول أهمية هذه البيانات وتفسيرها واستخدامها. 
بحسب الطبيبة أحلام، تنقسم استطبابات الولادة القيصرية إلى دائمة وأخرى طارئة، أما الدائمة فمنها ضيق حوض الحامل، والخروس (المجيء) المقعدي والمعترض، ويقصد بالخروس المرأة البكرية التي تنجب للمرة الأولى. 
أما الاستطبابات الطارئة والإسعافية فمنها الارتكاز المعيب للمشيمة (المشيمة المركزية)، والمجيء التوأم في حالات معينة، وتألم الجنين، فعندما تكون الأم في مخاضها تتناقص دقات القلب ويتعرض الجنين لنقص أكسجة، حسب الطبيبة أحلام. 

القانون لا يحمي ضحايا “القيصرية”

لا ينظر القانون السوري بعمق في موضوع العمليات القيصرية واحتمال استغلال الأطباء، أو تقصيرهم في واجب شرح مخاطرها، أو الالتزام بالاستطبابات مسبقًا.

ويوضح المحامي المتخصص، صلاح.ع، أن التقدير القانوني لقيام الأطباء بإجراء الجراحة القيصرية دون استطبابات حقيقية، أو دون موافقة مسبقة من الأم، أو عدم شرح مخاطر هذه الجراحة على الأم والطفل، يصنف على أنه جشع من قبل بعض الأطباء، في إطار السعي لزيادة الدخل.

ويؤكد المحامي، أن “إثبات أن المريضة خضعت لولادة قيصرية من دون موافقتها أو معرفتها أمر صعب”، وأن الشاكية “حتى لو تقدمت بادعاء، وحركت دعوى عامة ضد الطبيبة، سيعود القضاة إلى بند الإهمال الطبي، وهنا يصبح إثبات أمر الجشع صعباً للغاية، لأن الطبيب يستطيع أن يدعي بنفسه أو عن طريق محام أو وكيله القانوني في المحكمة، أنه لم يهمل عمله، وأجرى عملية جراحية ناجحة بعد تقديره أن الولادة تستوجب ذلك، فتصبح المدعية (المريضة) مدانة في هذه الحالة”. 

إثبات أن المريضة خضعت لولادة قيصرية من دون موافقتها أو معرفتها أمر صعب

هل يميل القضاء إلى الأطباء؟ 

وأصدر وزير العدل السوري، القاضي أحمد السيد، تعميماً في حزيران 2022، طلب فيه من القضاة كافة، وقضاة النيابة والتحقيق خاصة، مراعاة النصوص الخاصة في قانون التنظيم النقابي لنقابة الأطباء، والمتعلقة بأصول ملاحقة أعضاء نقابة الأطباء بجرم يتصل بالمهنة، سواء لجهة إبلاغ النقابة أم لجهة حضور ممثل النقابة التحقيقات.

كما طلب في التعميم من قضاة النيابة العامة والتحقيق الاستعانة بالخبرة الطبية الجماعية الاختصاصية، لتحديد سبب الوفاة أو الإيذاء المنسوبة للطبيب في معرض عمله قبل اتخاذ أي إجراء بحق الطبيب.

“جنحة” تحت باب “الإهمال”

يوضح المحامي، أن القانون السوري لا يتطرق في أي مادة لنوع الولادة أو إلى محددات الولادة القيصرية، إذ إنها لا تندرج ضمن الخطأ الطبي، لكن إذا أجريت الولادة القيصرية وحدثت فيها أخطاء، فهذا يندرج تحت بند الإهمال، استنادًا إلى المادة 550 من قانون العقوبات، مثل جشع بعض الأطباء، أو إهمال التعقيم، وعدم الالتزام بالقوانين الصحية، وكلها أخطاء طبية في حال تجاوزت المألوف.

ويعرف المحامي الخطأ الطبي، بأنه انحراف الطبيب عن السلوك الطبي العادي والمألوف وما يقتضيه من يقظة وحذر. 

ويذكر أن المادة 550 من قانون العقوبات السوري، تناولت الخطأ الطبي بشكل عام، لكن اجتهادات محكمة النقض وضعت كل ما يتعلق بالخطأ الطبي ضمن المادة المذكورة مثل إحداث عاهة دائمة وما شابه.

وتنص المادة 550 على أنه “من سبب موت أحد عن اهمال أو قلة احتراز أو عدم مراعاة القوانين والأنظمة، عوقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات”، وتكون العقوبة جنحية، تنظر فيها محاكم بداية الجزاء، بحسب المحامي صلاح.ع.

هبة وعلياء ورانية وبيان، اللواتي أدلين بشهاداتهن في التحقيق، هن عينة من نساء سوريات أنجبن قيصرياً دون دواع طبية، ودون شرح مسبق حول المخاطر من قبل الأطباء، بما يخالف شرف المهنة والقسم الطبي.

تفسر الإحصاءات والمقابلات الوجاهية لـ سيريا أنديكيتور مع نساء، أن ظروف الحرب والاقتصاد المدمّر، مع ضعف التوعية والرقابة، فتحت الباب واسعًا أمام انتشار الجراحة القيصرية دون ضوابط، وهو ما سيترك أثرًا طويل الأمد، وسوى الأثر الصحي على النساء والمواليد، ثمة ندب نفسية لا تنتهي. 

المصدر : سيريا انديكيتور

إشراف: علي عيد 

دعم فني: عمر مصطفى

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

آخر الأخبار

سوريّات في فخ “تطبيقات البث المباشر”..بين دعارة إلكترونية واتجار بالبشر

يستقصي هذا التحقيق تفشي “تطبيقات البث المباشر” داخل سوريا، ووقوع العديد من الفتيات في فخ تلك التطبيقات، ليجدن أنفسهن يمارسن شكلاً من أشكال “الدعارة...

ابتزاز واغتصابٌ وتعذيب.. سوريون محاصرون في مراكز الاحتجاز اللّيبية

يستقصي هذا التحقيق أحوال المحتجزين السوريين في ليبيا خلافاً للقانون الدولي، وانتهاكات حقوق الإنسان داخل مراكز احتجاز المهاجرين، وخاصة تلك التي تتبع “جهاز دعم...

كعكةُ “ماروتا سيتي” بمليارات الدولارات

آلاف الأسر تتسوّل حقّها بـ"السكن البديل" على أبواب "محافظة دمشق" يستقصي التحقيق أحوال سكان منطقة المزة – بساتين الرازي في دمشق، بعد تهجيرهم من بيوتهم...

معاناة اللاجئات السوريات المصابات بمرض السرطان في تركيا

تصطدم مريضات السرطان من اللاجئات السوريات في تركيا بحواجز تمنعهن من تلقي العلاج على الوجه الأمثل، بداية من أوضاعهن الاقتصادية الصعبة والاختلاف في أحقية...

خدمات المساعدة القانونية المجانية للاجئين السوريين في تركيا

غصون أبوالذهب _ syria press_ أنباء سوريا الجهل بالحقوق القانونية للاجئين السوريين في تركيا يقف حجر عثرة أمام ممارسة حقهم بالوصول إلى العدالة، ويمنعهم...
Exit mobile version