أحدث موت السورية آيات الرفاعي، قبل أيام، ضجّة كبيرة لدى الرأي العام، ووقع بشأنه سجال حامي الوطيس، إذ بقدر التعاطف معها واستنكار قتلها، هناك من حمّلها بعضاً من المسؤولية، كما يحدُث مرّاتٍ كثيرة أن تُحمّل الضحيّة السبب أو تدان، خصوصاً عندما تكون فتاة أو امرأة، باعتبارها الحلقة الأضعف في مجتمعٍ كان متروكاً لقرون خلت تحت سلطة الدين والأعراف والتقاليد ونظام العشيرة، تديره وتحدّد له منظومته القيميّة وطرق إدارة حياته، حتّى تحت قيادة حزبٍ نصّب نفسه قائداً للدولة والمجتمع خمسين عاماً، ورفع لواء العلمانية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، لكن الواقع كان عكس هذه الشعارات الخلّبية، وكان يزداد استنقاعاً واستلاباً من سلاطين متحالفة تاريخيّاً تتحكّم به.
ليست قصّة آيات وحيدة، ولن تكون، بل في مقابلها هناك قصص كثيرة مشابهة تحدُث كلّ يوم، إن لم تنتهِ بالقتل بهذه الطريقة الرخيصة، فإنّها توصل إلى الموت بطرقٍ أخرى، أكثرها وضوحاً الانتحار، يأتي بعده موتٌ بطرق كثيرة، موتٌ مجازي يقتل المعنى الإنساني والشعور بالنفس لدى كثيرات من نساء المجتمع، من دون ضجيج أو استنكار أو دعوة إلى رفع الظلم أو نصرة للحق في حياة كريمة.
من يتابع المشاهد التي أشهرت عن اعترافات الجناة الضالعين بالقتل بطريقة مباشرة، الزوج ووالده ووالدته، فسوف يُذهل من الأريحيّة التي يصفون بها الحادث وما سبقه وما تلاه، وكأنّ الفعل الذي قاموا به لا يرقى إلى مستوى الجريمة، بل أمر اعتيادي والتصرّف تجاهها طبيعي وسليم، ما دام مباركاً للزوج وذويه تأديب الكنّة في عرف الغالبية، فوالد الزوج يستهلّ اعترافاته بأنّ الأسرة كلّها لم تكن راضيةً عن سلوك الضحيّة: “تصرّفات البنت ما عجبتنا، صرنا نضربها عالطالعة والنازلة”. … هذا ما قال، كانوا يمنعونها من الخروج من البيت، و”يعوّرونها” ويضربونها، فأين أهلها قبل وفاتها من هذه الحياة البائسة الظالمة التي تعيشها ابنتهم، ذات التسعة عشر عاماً، وهي أم لطفلة وحامل بطفلها الثاني؟ ضربها حموها بمنتهى الساديّة والوحشيّة بسبب إبريق ماء ساخن، وأكمل عليها بسبب مفكّ براغي، فقط لأنّها قالت: “لا أعرف”، فكانت الخيزرانة بطرفها المليء بالدبابيس حاضرةً لتأديبها، ثم دخلت إلى غرفتها “فقلنا: مشي الحال خلصنا منها”… هكذا بكلّ بساطة، في وقتٍ كانت تخدمهم جميعاً وهي الحامل، وأين كان الزوج أمام ضربها؟ لحق بها إلى غرفتها ليُكمل عليها، وبكلّ أريحيّة يقول والده وأمّه إنّهما سمعا صوت الضرب: “سمعت دجّة قويّة على الحيط، صار يرجّ الحيط” ولم يتحرّكا، كأنّهما يسمعان ضجيج السيارات في الشارع، وخرج الزوج وجلسوا جميعاً، مثلما لو كانت حيواناً، ليس أليفاً، بل للخدمة والضرب كلّما “حرن” بحسب مزاجهم، ينزلون عليه بالضرب اللئيم.
أمّا الزوج فيقول: “ما كانت تعجبنا آيات الرفاعي، لا لإلي ولا لأهلي، كنّا نضربها” هكذا بالجمع يضربونها: “دجّيتلها راسها بالحيط أربع خمس مرّات، ضربات قويّة” ثم تركها “مغمى عليها” لينضمّ إلى مجلس العائلة ويتابعوا شرب الشاي.
الأنظمة السياسية المتعاقبة على المجتمع لم تعمل على النهوض به
المشكلة في المجتمع العميق الذي تشكّل وتجذّر في الظلّ عبر الزمن، فالأنظمة السياسية المتعاقبة على المجتمع لم تعمل على النهوض به، منذ الاستقلال، بل أسهمت في إجهاض النهضة الموعودة التي بدأت إرهاصاتها قبل عقود، وبقيت قضايا كثيرة مغلقة، أو مفتوحة عليها أبوابٌ مواربة بطريقة احتيالية تضمن للسلطات عدم الاصطدام مع تابوهات المجتمع، من دينية وقبلية، وفي الوقت نفسه تدغدغ أحلام الطامحين إلى التقدّم وتضمن بقاءهم تحت رايتها. وقد شكّلت المرأة إحدى قضاياه الأساسيّة، فلم تجرِ عمليّة دراسة وتحديث لقوانين الأحوال الشخصية، خصوصاً ما يتعلق بالمرأة والأسرة، ولا قوانين العقوبات التي ترتبط بعلاقة ما مع موقع المرأة في المنظومة القيمية، باعتبارها حاملة الشرف والعرض للقبيلة كلّها.
والمرأة باعتبارها جزءاً من الأسرة التي وضعتها الحكومات المتعاقبة في مركز الأولويات، نظريّاً، بالنسبة إلى اهتماماتها، ونادت بضرورة دعمها وتعزيز دورها وإعطاء أعضائها حقوقهم وحمايتها، فإنّها بقيت الحلقة الأضعف والأكثر إهمالاً، بل إنّ المنظمات الحكومية المعنية بقضاياها أصابها الترهّل والفساد، ولم تقدّم إلى المرأة ما يساعدها على النهوض وامتلاك كيانها ولعب دورها الإنساني في البناء، كمنظمة الاتحاد النسائي التي حُلّت بموجب مرسوم رئاسي منذ سنوات. كذلك تمكين المرأة وإيجاد تجمعات نسائية لم يكونا أكثر من صورة إعلامية تُشهرها السلطات للخارج، لتأكيد تقدّميتها وعلمانيّتها.
مجتمعات تهوي إلى الانهيار بتسارعٍ مرعب، لا يمكنها بناء شعب ودولة قادرة على الاستمرار
بعد هذه السنوات الحارقة التي أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه، ولمّا تنتهِ بعد، في وسعنا أن نرى كيف دفعت النساء الفاتورة الأبهظ في كلّ المناطق، واقعها يكاد يكون متطابقاً فيما بينها، فلا هي حققت أدنى مستوى من نهضتها المزعومة، ولا هي استطاعت أن تحمي نفسها، ولا أن يحميها المحيط من الانزلاق المميت نحو قاعٍ من الظلم والجور والمعاملة اللا إنسانية، هي نفسها إن كانت بغطاء رأس أو من دونه، عاملة في أيّ مجال أو بين حيطان المنزل، طفلة أو شابة، عزباء أو متزوّجة. المرأة في كلّ حالاتها محاصرةٌ في صورة نمطية تؤطّرها الأعراف والقوانين والسلطات المستبدّة، من البيت إلى الشارع إلى العمل إلى كلّ الفضاءات، أعتاها سلطة الأعراف وتأويل الدين، أكثر سلطتين حظيتا بالرعاية والدعم والاستثمار من السلطات السياسية، والشواهد والبراهين، ليست فقط ماثلة في البال والذاكرة، كما يبرهن موقف أهل الضحية آية من معاناتها التي كانت معروفة لديهم، بل يقدّم الواقع كلّ يوم ما يعزّزها، فهي في هذه الحرب الغاشمة أجبرت على أن تكون أرملة الشهيد وأمّه وأخته وبنته، وعليها حملُ تركته وإرثه، ونتائج الحرب، مهما كان ثقيلاً، الشهيد الذي أغدقت في تقديمه كلّ الأطراف المتحاربة، فتحمّلت المساومة على كرامتها، تزويجها قاصراً، وحرمانها فرص التعليم، وفرض الإقامة الجبرية عليها في بعض المناطق، وتعرّضها للرجم لو اشتبه في أنّها حادت عن الصراط المستقيم الذي يرسمونه، بل قتلها غسلاً للعار وصوناً لشرف القبيلة، بل دفعتها الحرب التي أحرقت الحياة إلى الإتجار بجسدها وكرامتها أحياناً. كان عليها أن تدفع فاتورة حرب لم تُسأل رأيها فيها، وكان عليها أن تقبل حضوراً صوريّاً في المنظمات والهيئات “الثورية” مع تقييد يديها في صنع القرار، كي يُقال إنها تشرك المرأة في صناعة القرار، وأن تكون يافطةً مضاءةً في ما يقدّمه النظام في المقابل عن علمانيته وصون البلاد من تمادي الإرهاب عليه وطموح قادته في السيطرة على المجتمع وحصره في أقبية التاريخ.
الحقيقة الجليّة أنّ مجتمعاتنا لم تنهض بعد، بل جاءت السنوات الأخيرة ودفعتها إلى الوراء عقوداً إن لم يكن قروناً، مجتمعات تهوي إلى الانهيار بتسارعٍ مرعب، هذه المجتمعات لا يمكنها بناء شعب ودولة قادرة على الاستمرار، فمجتمع ما زال يخاف من طلاق المرأة حتى لو كانت حياتها جحيماً وموتها حتميّاً، بالقتل الصريح كما مصير آيات الرفاعي، أو بموت مجازي وبطيء، بل يرى الموت أشرف وأكثر صوناً لسمعتها وسمعة عائلتها، ويعتبر المرأة فرداً ناقصاً تلزمه الوصاية، ويلزمه من يقرّر له حياته، ويجب أن يعيش تحت سلطة ذكور الأسرة أو القبيلة، هذا المجتمع لا يمكن أن ينهض ويسير مواكباً للحياة الإنسانية، وأيّ شعبٍ لن يُنجز ثورته أو يصل إلى أهدافه في حياة كريمة وعادلة من دون تحقيق العدالة الاجتماعية، إذ لا يكفي إسقاط نظام سياسي قائم أو الثورة عليه، على أهميّة مطلب التغيير السياسي، من دون أن يترافق هذا مع ثورةٍ على الواقع القائم وقلبه، وتفكيك عراه المتحالفة في صنع شبكة تعوق النمو والتقدّم.
سوسن جميل حسن _ العربي الجديد