syria press_ أنباء سوريا
كانت جائزة الترضية لحافظ الأسد إثر إرساله قواتٍ سوريةً للاشتراك في حرب الخليج الأولى عام ١٩٩٠، وعداً بمفاوضات مع إسرائيل؛ فكان مؤتمر مدريد عام ١٩٩١؛ وتبعه جولات مفاوضات مع الإسرائيليين في “واشنطن” و “واي بلانتيشن”.
في إحدى جولات واشنطن، سألتُ المرحوم الدكتور موفق العلاف، رئيس وفدنا (حيث كُنْتُ في الجانب الإعلامي للوفد): “لماذا لا يحصل أي نتيجة مما نحن بصدده؛ والإسرائيليون يبدون جاهزين؟”؛ فقال ما صدمني، وما يمكن تلخيصه بأن {“جماعتنا”- ويقصد حافظ أسد حصراً- ما (بدهن)}. كان ذلك في الجولة الخامسة من المفاوضات في واشنطن؛ حيث استمرت تلك الجولة أربعة أسابيع؛ وبدت الأمور شبه منتهية: “سنأخذ الجولان، وسيأخذ الإسرائيليون سلاماً”. لم يحدث شيء من ذلك.
عدت لاحقاً للتفكير بعبارة “العلاف” (ما بدهن)؛ ولَم استوعبها إلا عام ألفين، وتحديداً في السادس والعشرين من آذار، خلال آخر لقاء لحافظ الاسد و”بيل كلنتون” في جنيف؛ وبحضور “مارتن انديك” سفير أميركا في إسرائيل، و”دينس روس” المبعوث الأميركي لعملية السلام. خلال القمة كان الأخيران يتواصلان مع “إيهود باراك”، رئيس وزراء إسرائيل حينها. باراك اعترف بما سُمي “وديعة رابين”، التي بموجبها تقرُّ إسرائيل بتبادل (الأرض بالسلام)، وتعود الجولان؛ إلا أن حافظ الأسد لم يوافق؛ وحجته أمتار قرب بحيرة طبريا. رسالته هذه أنه / لا يتنازل عن سنتيمتر واحد من الجولان/. هكذا تم تصدير الأمر إعلامياً؛ إلا أن جوهر الأمر وحقيقته كان واضحاً عنده فقط لثلاثة: الأسد، دينس روس، ومارتن انديك. لا كلنتون، ولا حتى إيهود باراك كانا يعرفان أن الأسد لا يستطيع أن يوافق؛ ولكنه يستمر بالظهور بمظهر المتمسك بكل سنتيمتر؛ إلا أن همّه وهاجسه في مكان آخر. كان لموقفه ذاك أسباب حقيقية أخرى، لا ما هو ظاهر.
من هنا، وكي يبقى الأسد خارج أي استحقاق فعلي، يولّد حلاً، وتستعيد من خلاله سوريا أرضها المحتلة؛ كان الأسد يتلظى حيناً بالقضية الفلسطينية والشعارات البراقة في “المقاومة والممانعة”؛ وشعاره الخاص /لا حل سورياً قبل حل فلسطيني/. وكان قبلها قد عاش على “الصمود والتصدي”، إثر استعادة مصر لسيناء. ثم عاد، واختبأ في ظل “أوسلو”، ومناصبة عرفات العداء، كي يبقي مزاوداته حيّة في “المقاومة والممانعة”.
كثرت الفرضيات والنظريات حول موقف حافظ الأسد ذاك. بعضها وصل لدرجة القول إن الأسد قد باع الجولان فترة تسلمه وزيراً للدفاع، وقبض ثمنها؛ ومن هنا كانت أوامره كوزير للدفاع بذلك الانسحاب المذل من الجولان عام سبعة وستين. وبناءً عليه، يُطلَقُ التساؤل الاستنتاجي: كيف يستردها، وقد باعها وقبض ثمنها؟! آخرون يسوقون تفسيراً آخر لموقفه، بأن السبب الأساس يكمن بضرورة “المقاومة والممانعة والعداء لإسرائيل”، الذي يعطيه مبرر البقاء الأبدي في السلطة وتوريثها كما يشاء؛ لأنه في حال عادت الجولان، وعم السلام والديمقراطية؛ فلن يكون له أي مبرر إلا الخضوع للمعايير الديموقراطية في حكم رشيد أساسه تداول السلطة، والتنمية الحقيقية، ومحاربة الفساد والقمع والاستبداد؛ وهذا ما لا يستطيع الأسد أن يعيش معه، ويحتكر السلطة في آن معاً.
ومن هنا فإنه من وقت لآخر، لا بد من فتح هذا البازار للحاجة الماسة أو للضرورة: “مفاوضات سلام أو تطبيع مع إسرائيل”. فتكون تركيا أو غيرها الوسيط. والآن وبعد النكبة السورية لسنوات هي الأخطر والأكثر تهديداً لسوريا وشعبها عامة، ولمصير النظام التوريثي الحاكم، ومن يقف وراءه، خاصة؛ تدخل روسيا المأزومة على الخط.
هناك تسريب إخباري عن لقاء تمَّ في حميميم، قاعدة الروس الأساسية في سوريا، جمَعَ الأسد وإسرائيليين برعاية روسية الشهر الماضي. يفصّل ناقلو الخبر حتى بالشروط التي وضعها الأسد الابن كي يطبّع مع إسرائيل: تثبيت نظامه، رفع عقوبات قانون قيصر، تسديد ديون إيران، إعادة علاقاته مع الخليج، والعودة للجامعة العربية. ومن جانبهم طلب الإسرائيليون- كما ينقل المسربون- فك الارتباط بإيران، إخراج حزب الله من سوريا، تقديم معلومات وإحداثيات عن الحرس الثوري، وإعادة هيكلية الجيش والآمن وتنظيفه من الولاءات لإيران، وتسليم ما تبقى من السلاح الكيماوي.
مُقنع في هذا المفصل الزمني أن تكون روسيا هي الوسيط؛ فليس أهم عندها من تقديم نفسها للغرب، رعاة إسرائيل، كصديقة لها آملة أن تكون بوابتها للغرب؛ فهو من جانب إخراج لها من أزمتها وتورطها؛ ومن جانب آخر إنقاذ لنظام طالما سعت لإعادة تعويمه؛ إلا أن ذلك يأتي بعد أن توهّم الروس أن القضية السورية كلها بيدهم، غير مدركين أن أميركا لا ترى فيهم حتى الشريك الند للحل. ما هو غير مقنع يكمن أولاً في هذه الشروط المتبادلة شبه المستحيلة. فمن ناحية، نظام الأسد ونظام الملالي كتوءم سيامي يصعب فصله؛ فقد تناسى رأس النظام أن إيران تعتبر خطوة كهذه بمثابة افتئات على ملالي قُم؛ وبالتالي يجب أن يُنزل أشد العقاب بالخائنين الذين يرغبون بالاستغناء عن الأوكسجين الإيراني، ولعل نهاية “علي عبد الله صالح” خير موعظة لمنظومة الاستبداد. من جانب آخر، مَن قال إن إسرائيل ليست مسرورة بوجود إيران وأدواتها في سوريا كحجة لها للنيل منهم ومن سوريا معاً؛ وخاصة أن الأسد هيأ لها هذه الفرصة مختاراً أم مجبراً. ومن ناحية ثالثة، هل تحتاج إسرائيل أن تطبّع مع منظومة استبدادية منحتها كل ما أرادته لأربعة عقود، ودمّرت لها سوريا في العقد الخامس؟! ربما كان نافعاً لإسرائيل أن تطبع مع النظام في أي وقت، إلا في هذا الوقت؛ فهو الآن يحمل أوزاراً، حتى إسرائيل لا تستطيع حملها أو رفعها عنه. والأكثر أهمية، أن إسرائيل تعرف بأنه نظام مهترئ، ولا يستحق منها حتى مكافأة نهاية خدمة.
ما الغاية إذن من هكذا تسريبات، حتى ولو كانت صحيحة؛ وخاصة أن أخطر ما يمكن أن يتعرض له النظام هو انكشاف حقيقته، وانفضاح كذبة “المقاومة والممانعة والصمود والتصدي” التي عاش بظلها، وزاود على الجميع بظلها، وقتل السوريين بظلها، وجعل موالاته مقعدين عقلياً وأخلاقياً بظلها؟؟!!
لقد وصل النظام الأسدي إلى حافة الهاوية فعلاً؛ إنه في حالة يأس قاتلة؛ وما بقي أمامه إلا الانكشاف. فإن تمخض شيء عن المحاولة، فلا بأس؛ وإن لم يحصل (للأسباب المذكورة أعلاه) يقوم بتكذيب التسريب، ويستعيد بعض ماء الوجه أمام موالاته على الأقل، ويبرر شيئاً من الوضع المأساوي الذي وصلت إليه سوريا. ويقول: “ها هي المؤامرة الكونية مستمرة، وعناصرها يتهمون نظام المقاومة بالتواصل مع إسرائيل بكذب وتجنٍ وظلم!!” وبذا يحافظ على سردية عاش بظلها كل هذه السنين، ويستعيد عقولاً برمجها؛ بدأت “تشك” به.
أخيراً، لقد كسبت إسرائيل ما لم تكن تحلم به خلال السنوات العشرة الماضية؛ إلا أن هذا الجنى مرحلي؛ فعمر الشعوب لا يقاس بسنة أو بعقد أو بقرن. ربما كان بودها ألا يصل نظام الاستبداد الخادم لها إلى هذا الحد. لقد سقطت ورقة التوت وانكشفت عورته؛ ولم يعد هناك ما يتلظى به، وسقطت شماعة “أولوية معركة المصير مع إسرائيل”، التي ينشر عليها عذابات السوريين. إنه نظام تخضبت يداه بدمائهم. إنه نظام يحتضر. وقد يكون العلاج الإسرائيلي قاتلاً بالنسبة له. وهكذا، لم يبقَ أمامه إلاّ الرحيل.
يحيى العريضي _ موقع تلفزيون سوريا